يلقي حق العودة اهتماماً بالغاً، في الوقت الحالي، في الدوائر الإسرائيلية ويقابله قلق شديد مزمن بين اللاجئين، بينما يحاول المفاوضون الفلسطينيون انتـزاع إتفاق يقابل بالرضا من الطرفين، وهذا مستحيل حسب المعطيات الحالية.

منذ عقود مضت، لم يحظ حق العودة في إسرائيل باهتمام أكثر من الاهتمام الذي تبديه في الوقت الحالي كما هو ظاهر في الصحف الإسرائيلية. لقد عاش المجتمع الإسرائيلي نصف قرن وهو ينعم بفقدان ذاكرة جماعي عن الفلسطينيين الذين عاش الإسرائيليون على أرضهم وفي بيوتهم، ولم يتساءل أحد من هؤلاء الإسرائيليين عن الشعب الذي عاش على هذه الأرض قروناً، والذي بني هذه البيوت التي سكنوا فيها بعد احتلالها، بما تبقي فيها من أثاث وما علق على حوائطها من صور، والذي زرع بساتين الزيتون والبرتقال التي انشئوا عليها مستعمراتهم.

وخلال أسبوع عيد الفطر، امتلأت افتتاحيات الصحف الإسرائيلية ومقالات الكتاب الإسرائيليين بتعليقات وتحليلات لحق اللاجئين في العودة، يشوبها الفزع من اكتشاف جريمة النكبة، والخوف العنصري من المجهول، من القتيل الذي بعثت فيه الحياة، فعاد يطالب بحقوقه من قاتله.

فهاهي جريدة الجروزاليم بوست الليكودية تصرخ في افتتاحيتها (24/12) أن عودة ملايين اللاجئين تعني نهاية الدولة اليهودية، ولم تذكر لماذا وكيف؟ وهي تفضل أن تمارس إسرائيل بالفعل تدمير الشعب الفلسطيني بما فعلت منذ نصف قرن على العيش مع خوف دفين من فكرة “ تدمير” الفلسطينيين لإسرائيل في المستقبل، وتقول بحسم أن إسرائيل انتصرت في جميع الحروب، وليس لديها حافز لتغيير الوضع الراهن، فليذهب “السلام” إلى الجحيم. أما جريدة هارتز التي تعتبر معتدلة، فقد رفضت حق العودة في افتتاحيتين (25و27/12). وتقول إن عدد اللاجئين حسب السلطة 5 ملايين (وهذا هو الحد الأدني)، أو 3.5 ملايين حسب المفوض العام للاجئين (وهذا خطأ، فهو 3.8 ملايين حسب المسجلين لدي وكالة الغوث فقط وهي هيئة أخري). وتقدر أن بين 2-3 ملايين لاجيء قد يريدون العودة إلى إسرائيل ما يؤدي إلى إنهيار الطابع اليهودي لإسرائيل، ومن ثم إلى قيام دولة ثنائية القومية.

وتعترف هارتز أن ظلماً وقع على اللاجئين الذين "تركوا" ديارهم وأنهم يستحقون تعويضاً عما لحق بهم، ولكنها تغفل ذكر المسئول عن هذا الظلم ولا تطلب إزالته ولا تدعو إلى دفع التعويضات عن المعاناة النفسية واستغلال الاملاك الفلسطينية خلال نصف قرن. وتطالب هارتز القيادة الفلسطينية "أن تقف بشجاعة امام مئات الآلاف (هكذا وليس الملايين) من اللاجئين وتقول لهم: لقد حان الوقت لأن ترموا مفاتيح بيوتكم في يافا وحيفا، وأن تكفوا عن التمسك (بحلم) العودة من جيل إلى جيل، وأن ترضوا بالحلول الواقعية" أي توطينكم أو تسفيركم إلى بلاد أخرى. في فقرة واحدة، تدعو الجريدة إلى الاستمرار في تنفيذ جريمة التنظيف العرقي، وتدعوا إلى اقتراف جريمة حرب جديدة هي نقل السكان وتوطينهم القسري.

ويتبرع آلوف بن (هارتز 25/12) بتفسير جديد لقرار الأمم المتحدة الشهير رقم 194 بموجبه تستطيع إسرائيل القبول به، وارضاء السلطة الفلسطينية من أجل توقيع إتفاقية جديدة بعد إفراغ هذا من مضمونه الرئيس. يقول إن قرار 194 يدعو إلى إنشاء هيئة التوفيق من أجل "عودة اللاجئين وتوطينهم في مكان آخر، وتأهيلهم اقتصاديا واجتماعيا ودفع التعويضات لهم". وهذا يعني التوطين والتعويض، أما العودة فهي غير ملزمة بموجب قرار الجمعية العامة، الذي لم يذكر أن العودة "حق" ولم يذكر جنسية اللاجئين (قد يكونوا يهوداً)، ولم يذكر إسرائيل مرة واحدة، ولم يلق باللوم عليها في المسئولية عن خلق مشكلة اللاجئين أو يطالبها بالتعويض عنها. ويقول أن وزير العدل السابق يوسي بيلين قد صاغ هذه المفاهيم نفسها في مذكرة بيلين – أبومازن، المعلنة تارة والسرية تارة أخري.

أما مقترحات كلينتون الأخيرة، فهي لا تعدو عن كونها صياغة للمطالب الإسرائيلية، وليس لها مرجعية في القانون الدولي، أو حتي في المصالح الحقيقية للولايات المتحدة.

الرد على المقترحات الاسرامريكية سهل وواضح، لو أن إسرائيل تتمكن من التخلص من مرض فقدان الذاكرة الجماعي فيما يتعلق بنكبة عام 1948، ومن مرض عقدة الانتقام من النازيين الأوربيين، حيث لا تملك الشجاعة والقوة، في شخص الفلسطينيين على أرض فلسطين، حيث وجدت ملجأ وشعباً أعزل.

أولا القرار 194 هو تطبيق للقانون الدولي، وليس اختراعاً لمبدأ جديد. ورغم أن قرارات الجمعية العامة تعتبر توصيات، إلا أنه تكرار تأكيده أكثر من 110 مرات، يؤكد تصميم المجتمع الدولي على تنفيذه في إجماع دولي ليس له نظير في تاريخ الأمم المتحدة. وجدير بالذكر أن قرار 194 أشار في مذكرته التفسيرية بكل وضوح إلى أن عودة اللاجئين تكون إلى بيوتهم وأراضيهم التي هجروا منها، وليس إلى أي مكان آخر قريب أو بعيد.

وحق العودة نابع من حرمة الملكية الفلسطينية الخاصة التي نهبتها إسرائيل. تبلغ مساحة الأراضي الفلسطينية 92% من مساحة إسرائيل. وهي الاراضي التي تريد إسرائيل الاستيلاء عليها بطرد اللاجئين منها ومنعهم من العودة إليها مقابل دفع تعويضات تافهة من جيوب آخرين. وحق العودة حق فردي، وقد أصبح حقاً جماعياً بموجب حق تقرير المصير الذي تقرر عام 1969. وقد أكدت الأمم المتحدة في قرارها 3236 الصادر في 1974/11/22 أن حق العودة "حق غير قابل للتصرف"، وتوجد اليوم لجنة دائمة في الأمم المتحدة تحت إسم "لجنة الحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف"، ولابد أن عنوانها معروف لدي المعلقين الإسرائيليين.

أما كون قرار 194 لم يذكر إسرائيل، فهو مضحك حقاً، لان إسرائيل لم تكن عضوا في الأمم المتحدة آنذاك، ولكن القرار أشار إليها في المسئولية عن الأضرار والتعويض، إذ جاء فيه: إن التعويض عن الاضرار والخسائر التي تعرض لها اللاجئون هي "مسئولية الحكومات والسلطات المسئولة"، وهذا يشمل حكومة إسرائيل المؤقتة آنذاك والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة والهاجانا وعصابات والارجون والشتيرن والوكالة اليهودية والصندوق اليهودي وغيرهم.

اما الادعاء الإسرائيلي بأن عودة اللاجئين تعني تدمير إسرائيل بمعني تغيير الطابع اليهودي لإسرائيل فهذا ايضا من قبيل اقتراف جريمة قتل فلسطيني من أجل درء خوف القاتل من احتمال قيام الفلسطيني بقتله في المستقبل، وهو الاحتمال الذي لن ينشأ أصلا اذا لم تقترف جريمة القتل الأولي. وهو ادعاء لا قيمة قانونية أو أخلاقية له. فاسترداد الحق المسلوب حق مشروع، بل واجب، في القانون الدولي. ولا ينتقص منه أنه يغُضب سالب الحق أو يخيفه. وليس هناك حق قانوني أو أخلاقي للص إذا حاز الأملاك المسروقة واستغلها لفترة طويلة.

ومع ذلك فإن الادعاء بإزالة الطابع اليهودي لإسرائيل فيه مغالطات وتضليل. فاذا كان المقصود بالطابع اليهودي استمرار التفوق العددي لليهود في إسرائيل، فهذا وهم كبير، لانه مهما استمرت الهجرة فستنضب يوماً ما، وسيستمر التكاثر الفلسطيني. ويقدر الخبراء أنه خلال 50 سنة ستصبح الأقلية الفلسطينية في إسرائيل مساوية لعدد اليهود. ويمكننا أن نتصور أنهم سيصبحون أقلية حاسمة في أقل من هذه المدة بكثير. وفي الواقع لن نحتاج إلى الانتظار كثيراً، إذ يبلغ عدد الفلسطينيين اليوم في كل مناطق فلسطين المحتلة (1948،1967) 48% من مجموع السكان. فكيف يمكن قبول هذا الادعاء الواهي؟

واذا كان المقصود الطابع الاجتماعي لإسرائيل، فلا يتوقع أحد، حتى بين الإسرائيليين،أن يؤخذ هذا الادعاء موضع الجد، فإسرائيل اليوم تتكون من بضع عشرة قبيلة من كل الالوان والاشكال، يتحدثون 32 لغة، ويلبسون ملابس مختلفة، ويعبدون، أو لا يعبدون، بطرق مختلفة، وسلوكهم الاجتماعي والثقافي مختلف اختلاف الأمم المتحدة. فهل يعقل أن يكون الفلسطينيون، أصحاب الأرض، هم الطرف الغريب في هذا السوق؟

واذا كان المقصود الطابع الديني، فليس هناك أي مشكلة في ممارسة الطقوس الدينية اليهودية. واذا كان المقصود هو الطابع القانوني لدولة إسرائيل، الذي يطبق القوانين العنصرية، التي تعطي اليهود حقوقاً تنكرها على العرب، فقد شجبت الأمم المتحدة هذه الممارسات مرات عدة، وآخرها مارس ونوفمبر عام 2000 حيث شجبت لجان الأمم المتحدة المنبثقة عن المعاهدات ممارسات إسرائيل العنصرية، مما جعلها منبوذة. وسيزداد هذا الشجب والنبذ في القرن الواحد والعشرين، حين تزداد أهمية الرأي الشعبي وجمعيات حقوق الإنسان، ويستمر فضح الممارسات الإسرائيلية على شبكة الاتصالات الالكترونية والفضائيات.

واذا كان المقصود هو أن عودة اللاجئين تعني هجرة عكسية لليهود الذين احتلوا أراضي الفلسطينيين وبيوتهم، فهذه مغالطة أخري. إذا أثبتت الدراسات الجادة أن 90% من اليهود يعيشون في 11% من مساحة إسرائيل، وهي نفس المساحة التي كانوا يعيشون فيها عام 1948، وأن الغالبية الساحقة لليهود الآخرين الذين يعيشون على الاراضي الفلسطينية يعيشون في 11 مدينة فلسطينية الأصل ومختلطة اليوم. أما الاراضي الريفية الفلسطينية وتبلغ مساحتها أكثر من 18 مليون دنم، فيعيش عليها 200,000 يهودي ريفي فقط من سكان الكيبوتز والموشاف. ومن سخرية القدر أن حفنة ضئيلة من سكان الكيبوتز يبلغ عددهم 8,600 فقط هم الذين يعملون بالزراعة، بينما يتكدس أصحاب الأرض، وهم 5,250,000 لاجيء، في المخيمات والمنافي، في انتظار العودة. ومن أجل هذه الحفنة، تحرم هذه الملايين من حقها الطبيعي المشروع.

وهنا نقول أنه يجدر بموراتينوس في الاتحاد الاوربي، الذي خصص أموالا للدراسات، ومراكز البحث الإسرائيلية، والقلة من الباحثين الفلسطينيين المؤمنين "بالواقعية" والمستفيدين من أموال التمويل الأوربي، أن يدرسوا إمكانية استيعاب أرض فلسطين عام 1948 لعودة أهلها، بدلاً من دراسة استيعاب الضفة والأردن والعراق واستراليا للاجئين. ولا نعلم أن هؤلاء، ومن بينهم خبراء المفاوضات الفلسطينية، قد بذلوا أي جهد في دراسة استيعاب إسرائيل. وهو الأمر الذي سيؤدي بهم إلى اكتشاف الحقيقة الصارخة، المكتومة حتى الآن، وهي أنه بالامكان استيعاب جميع اللاجئين عند عودتهم إلى ديارهم بأقل التأثير على اليهود، هذا إذا كانت راحة اليهود هي هاجسهم الأول.

وتتميز كل مظاهر المفاوضات بجهل أو تجاهل شديد للحقائق. هم يذكرون مثلاً مبدأ "تبادل الاراضي"، أي بضم الاراضي الخصبة التي بنيت عليها المستوطنات في الضفة إلى إسرائيل مقابل "التنازل" عن منطقة تساوي نصف أو عشر مساحتها في "حالوتسا". هذه "الحالوتسا" هي صحراء الخلصة، وهي كثبان رملية تقع غرب بئر السبع وجنوب رفح، لا تعبرها عربة أو دابة، وليس بها ماء، إلا أنبوب واحد صغير مدته إسرائيل، وبها مصنع تلقي فيه النفايات الكيماوية السامة ما أدى إلى تقرحات وأمراض سرطانية بين السكان العرب القريبين منها. وهي قريبة من المنطقة المنـزوعة السلاح في العوجة والتي تبلغ مساحتها 260 كيلو متر مربع، وليس لإسرائيل السيادة عليها حسب اتفاقية الهدنة.

وحيث أن معظم منطقة حالوتسا تقع في الدولة العربية حسب مشروع التقسيم، نتسائل لماذا لا يقترحون توسيع قطاع غزة نفسه بحيث يزيد عرضه 5-7 كيلو مترات شرقاً، ويمتد إلى حدود اسدود شمالاً، حسب قرار التقسيم نفسه، وبذلك يمكن عودة كثير من اللاجئين إلى ديارهم نفسها؟ لماذا يرمون لنا العظام فقط؟ وما هي دراسات المفاوضات الفلسطيني في هذا الصدد؟

لقد أبدت بعض الصحف الإسرائيلية ذعراً شديداً من مبدأ التخلي عن الأراضي المحتلة، وطالبت بعدم المساس بخط الهدنة (الذي يسمونه الخط الأخضر ليزيلوا عنه صفته المؤقتة، وللأسف تقع الصحافة العربية في هذا الفخ). ذلك لأنهم يرون في تحريك خط الهدنة فتح باب جديد للعودة إلى مشروع التقسيم الذي تجاوزته إسرائيل بمقدار 24% من مساحة فلسطين، وكان يعيش فيه ثلث اللاجئين، أي حوالي 1.7 مليون لاجيء اليوم. وقد كان هذا مصدر الدعوة إلى عودة 300,000 لاجيء عام 1949 التي دعا إليها رئيس هيئة التوفيق (الامريكي)، وقبل بها موشي شرتوك (شاريت) بعد أن خفض العدد إلي 100,000. لكنه شرتوك عاد وخفضه إلى 65,000 باعتبار أن 35,000 قد "تسللوا" عائدين إلى بيوتهم، وترك الباقي للعودة تحت برنامج “لم الشمل” العتيد الذي لم يعد بموجبه إلا بضعة آلاف، بسبب التعنت والتشديد والتسويف حتى في فترة ما بعد أوسلو. وإلى الآن لم توافق إسرائيل على عودة أكثر من 1000-2000 في العام. هذا البرنامج هو الذي يعتمد عليه كلينتون وباقي الاسرامريكيين في تحقيق حق العودة اللاجئين.

يجب أن تتوفر للمفاوض الفلسطيني الخبرة والشجاعة أن يناقش، بجانب الاصرار على حق العودة المقدس، تعديل خط الهدنة، فهو ليس إلا خطأ إعتباطياً توقفت عنده القوات الإسرائيلية الغازية عندما شعر بن جوريون بالتخمة، ووقف ليلتقط أنفاسه، ثم عاود الكرة مرة أخري عام 1956،1967. وعليه يجب أن يطالب المفاوض الفلسطيني بزحزحته غرباً، لا شرقاً، إذا كانوا يريدون السلام.

لقد قبل المجلس الوطني في الجزائر عام 1988 بقرار التقسيم 181. فإذا كانت إسرائيل ترغب الآن في إعادة تقسيم فلسطين من جديد بنهش أجزاء من الضفة والسيطرة على مناطق في القدس فلماذا لا تتم المفاوضة على أساس التوصية بتقسيم فلسطين عام 1947؟ وإن كان اليهود يرغبون في البقاء أغلبية ساحقة في مناطقهم، فالحل موجود. فلتتقلص حدودهم إلى 14% من مساحة إسرائيل، حيث وجدوا عام 1948، وحيث تتركز غالبيتهم اليوم. هنا يستطيع الفلسطينيون ضمان وجودهم أغلبية يهودية نقية، خلال هذا القرن. ولكنهم لا يستطيعون الاحتفاظ بالأرض الفلسطينية شبه خالية وأهلها في المخيمات. هذه الأفكار لن تلقي قبولاً إسرائيلياً بالطبع، لكنها تنقض الاسس التي يعتمدون عليها في ادعاءاتهم.

إذن لسنا نجد في الطروحات الإسرائيلية ما هو غير قابل للنقض والدحض، أو ما هو مطابق للقانون الدولي، أو مقارب للحقوق الفلسطينية. وكثرة حديثهم الآن عن حق العودة ما هو إلا دليل ذعر اللص من استرجاع ما سرقه، وليست لديه حجة قانونية أو تاريخية تدعمه.

ما هو موقف الشعب الفلسطيني وثلثيه من اللاجئين؟

لم ينتظر اللاجئون ما يسفر عنه اتفاق أوسلو الفاشل، فقد تبين لهم من البداية أنهم أسقطوا تماماً من الحساب، وأن الاتفاق لا يعالج، حتى في حال نجاحه، إلا مصير جزء صغير من الشعب الفلسطيني، لا يزيد عن 13%، هم المواطنون الأصليون في غزة والضفة. ومنذ بداية 1994، بدأت الدعوة إلى احياء حق العودة في نطاق ضيق، ولكنها ما لبثت بجهود المخلصين أن عمت جميع مناطق الشتات. وفي عامي 1999و2000، بلغ عدد الجمعيات التي تدعو إلى حق العودة أكثر من مائتين موزعة في مراكز تجمعات اللاجئين في البلاد العربية والأجنبية. وعقد أكثر من عشر مؤتمرات، ووقعت على الأقل 4 عرائض رئيسة بلغ عدد الموقعين عليها أكثر من مائة ألف. ويتم الآن التنسيق بين جمعيات حق العودة والجمعيات الأهلية التي تعني بحقوق الإنسان. وهناك بوادر نشوء لوبي عربي، وأجنبي مؤيد له، في أوربا وأمريكا. ورغم أن هذا الجهد لايزال في بداياته، إلا أنه لا يمكن تجاهله، لا من قبل السلطة أو غيرها. كما أن تأثيره في هذه الفترة القصيرة كان بالغ الوقع نظراً لخلو الساحة من مثل هذا الجهد سابقاً.

وهذا يعني أن أي تجاهل لحق العودة في المفاوضات سيقابل بمقاومة شرسة على الصعيدين القانوني والإعلامي، وسيثير جمهور اللاجئين خصوصاً في فلسطين والبلاد العربية وسيؤثر تأثيراً سلبياً على الموقعين على اتفاقيات غير مرضية.

ما هو موقف السلطة من التيار الاسرامريكي والتيار الشعبي الفلسطيني؟ كان هم المفاوض الفلسطيني الحصول على “الحقوق الممكنة”، وليس “الحقوق غير القابلة للتصرف”. لكن رفض القيادة الفلسطينية التوقيع في مباحثات كامب دافيد أكد بشكل قاطع أن الهوة بين الممكن إسرائيلياً والمطلوب فلسطينياً كبيرة بحيث لا يجرؤ على تجاهلها أي قائد. وقد تأكد هذا مرة أخري بعد انتفاضة الأقصى التي سقط فيها حتى الآن أكثر من 300 شهيد.

لقد أفادت التقارير الدولية اثناء أنتفاضة الأقصى أنه باستثناء وزارات الصحة والتعليم (وهي وزارات مهنية) والجمعيات الأهلية والقوي الشعبية، لم تقم أجهزة السلطة بأي جهد يذكر في دعم الأنتفاضة. بل إن أعمال المقاومة التي قام بها بعض الافراد بدوافع ذاتية قد أجهض بعضها بسبب الاختراقات الأمنية. وهذا أمر يجب معالجته في الحال قبل حدوث عواقب غير محمودة.

ونأمل أن يدرك المفاوض الفلسطيني الذي يفكر في إسقاط حق العودة أن هذا الحق شخصي، وأن التوقيع على إسقاطه أو تذويبه أو تغليفه في غلاف جديد لن ينتقص من هذا الحق. لكن أي محاولات من هذا النوع ستعود على إسرائيل بفائدة كبيرة، وهي أن السلطة تتولي آنذاك مطاردة من يطالبون بحق العودة (كما يحدث نحو من يعارضون اتفاقية أوسلو الفاشلة)، باعتبارهم "اعداء السلام". ومع أن اسقاط حق العودة في أتفاق قد توقعه السلطة ليس له قيمة قانونية، إلا أنه يخلق فتنة داخلية لن يخرج فيها الموقعون منتصرين. كما أنه من ناحية عملية لا يمكن تطبيقه، إذ أن 13% من اللاجئين يعيشون في مناطق السلطة، و87% خارجها، ولهم الخيار في اتخاذ أي اجراء للدفاع عن حقوقهم.

كما أن السلطة قد تجلب لنفسها متاعب كثيرة، إذا أقرت المادة السيئة التي قبلتها في اتفاقية أوسلو والتي تحمّل السلطة كافة مسئوليات المطالبات والتعويضات التي يطالب بها الفلسطينيون إسرائيل. ومعني هذا أن ترفض إسرائيل قانونياً قبول الدعاوي الفلسطينية، وتحولها إلى السلطة للبت فيها،وعندئذ لا يجوز لأي فلسطيني مقاضاة إسرائيل في محفل دولي.

ويجب أن تحذر السلطة من أي اتفاق يؤدي ولو بصفة غير مباشرة إلى الغاء القرارات الدولية، وأهمها قرار 194، قبل التنفيذ المطلق والكامل له. ذلك لان الأدارة الأمريكية تسعي منذ 1994 إلى ذلك عندما قالت اولبرايت: "إن هذه القرارات قد عفا عليها الزمن وأصبحت غير ذات مفعول". وتهدف الخطة الاسرامريكية منذ زمن إلى إلغاء وكالة الغوث، أهم سجل قانوني وتاريخي للاجئين، والغاء قرار 194، بموجب قرار جديد في الأمم المتحدة توقع عليه إسرائيل ودولة فلسطين، وذلك بناء على اتفاقية سلام منقوصة، شرعيتها مشكوك فيها، ومرفوضة من غالبية الشعب الفلسطيني.ويجب أن تحذر السلطة من اعتبار تطبيق قرار 242 هو نهاية الصراع، فهذا القرار هو إزالة لأثار حرب 1967، ولا يمثل جوهر النـزاع الذي نشأ قبل ذلك بعشرين عاماً. لايزال جوهر النـزاع هو طرد الفلسطينيين من ديارهم ورفض عودتهم إليها (وهاتان جريمتان منفصلتان).

وسيحاول الجانب الاسرامريكي الإشارة إلى المادة 1 فقرة 2 من قرار 242 التي تقول "إنهاء جميع المطالبات وحالات التحارب..." بمعني إسقاط كل المطالبات. وهذا غير صحيح لان المطالبات الفردية، وكذلك الجماعية إذا كانت تنافي القانون الدولي، لا تسقط باتفاق أو بمرور الزمن. هذا فضلاً عن عدم انطباق هذا القرار على حقوق اللاجئين التي صدرت في شأنها قرارات أخري. ولن تسقط المطالبات الفلسطينية خلال فترة طويلة جداً من الزمن، إلا عند تحقيقها وعندها يمكن إنهاء المطالبات. وقد يتبع ذلك وليس قبله إنهاء الصراع الذي يعني حالة من المودة والمحبة والتعاون، وهذا يحتاج إلى قرن آخر على الأقل.

ويجب أن تحذر السلطة من فخ التعويض. الرأي الاسرامريكي هو أن يتكون صندوق دولي تموله عدة دول من بينها دول الخليج (بدلاً من إسرائيل المستفيدة) لدفع مقابل تافهة (حوالي 2% من القيمة الحقيقية) تعويضاً عن الأملاك غير المنقولة (علماً بأن الوطن لا يباع) وعن المعاناة النفسية والخسائر المادية واستغلال الأرض لمدة 50 عاماً (لا يدفع عنها شيء)، وتسلم هذه المبالغ إلى السلطة والدول المجاورة (وهو غير قانوني لان حق التعويض والمخالصة عليه حق فردي للاجيء ينتقل من جيل إلى جيل) مقابل توطين اللاجئين في بلادهم (اللاجئون يرفضون ذلك وكذلك الدول المجاورة عدا الأردن التي تقبل بمن عندها ولا تقبل المزيد).

ولو تمت مؤامرة التعويض فإن إسرائيل ستغنم 18 مليون دنم أراضي، و13 مدينة ومواقع 530 قرية وشبكات طرق وسكك حديد ومطارات وثروات طبيعية، مقابل مبالغ تافهة يدفعها الغير، وتصبح الاوطان والأملاك والحقوق ملكاً شرعياً لإسرائيل بتوقيع أصحاب الحق أنفسهم. هذه الطبخة غير قانونية وغير أخلاقية ولا يمكن قبولها إطلاقاً.

يجدر بنا جميعاً أن لا نضيع دماء الشهداء الزكية هدراً وأن نتعلم من التجارب المريرة التي مرت بنا. وأهم الدروس التي ينبغي على السلطة بالذات الاستفادة منها هي:

  1. الاقتناع بأن قصة أوسلو من بدايتها إلى نهايتها هي قصة خداع، وينبغي أن تُنبذ بالكامل، وتعود الأمور إلى حظيرة الشرعية الدولية. ويتبع ذلك أن يتقاعد مهندسو اتفاقية اوسلو، ويتم اختيار فريق جديد للتفاوض والدبلوماسية والإعلام من الشباب المؤهل المخلص، وأجزم أنهم كثر ورهن الإشارة.
  2. تعبئة الطاقات الشعبية والأجنبية التي تساند حق العودة عن طريق شبكة عالية الكفاءة من جمعيات حق العودة، التي تمثل جمهور اللاجئين في كل التجمعات.
  3. التمسك بالشرعية الدولية كما سبق التأكيد عليه في قرارات الأمم المتحدة السابقة، ورفض تذويبها أو الغائها تحت أي ظروف.
  4. الاستفادة من زخم الانتفاضة بتكوين لجان ميدانية عالية الكفاءة لمناهضة الاحتلال الإسرائيلي في كل شارع وكل موقع وكل قرية، وتوجيه أهدافها إلى إزالة الاحتلال وتحرير القدس وتنفيذ حق العودة، ولا تتوقف دون ذلك.

والحال كهذه، فإن من الطبيعي أن تزداد الدعوة إلى تجمع شعبي موحد للاجئين للدفاع عن حقوقهم المباشرة في العودة والتعويض معاً. وهذه الدعوة قد نضجت إلى حد أنه ليس من المستبعد أن ينعقد قريباً مؤتمر شعبي عام يختص بحقوق اللاجئين في العودة والتعويض، وقد ينبثق عن هذا المؤتمر انشاء "حزب العودة"، الذي يدافع فيه أصحاب الحق المباشرين عن حقوقهم، ويتعاونون في ذلك مع منظمة التحرير الفلسطينية، ممثل الشعب الفلسطيني الرسمي، ومع الحكومات والجهات الدولية نحو هذا الهدف. وهو أمر واجب الاداء إن عاجلا أو آجلا.