حمل العرب، والفلسطينيون خاصة، جرحاً غائراً في صدورهم وهو نكبة فلسطين عام 1948، لن يشفى ولن تبرأ كل آثاره حتى لو أزيلت آثار هذه الجريمة غير المسبوقة في التاريخ الحديث. لقد أدت النكبة إلى سقوط عروش واغتيال زعماء وتغيير أنظمة. وعندما طردت القوات الإسرائيلية أهالي 530 مدينة وقرية من ديارهم عام النكبة، خرج حوالي مليون لاجئ إلى أماكن اللجوء فيما تبقى من فلسطين والدول العربية المجاورة، وحملوا معهم ذكريات موجعة عن فقدان الوطن والذبح والتشريد، وأصبحت هذه التجربة الإنسانية مادة لأدبيات اللاجئين ثم أدبيات الثورة، ثم أصبحت مخزناً للذاكرة الجماعية للفلسطينيين، تدعمها السير الذاتية والقصص والأشعار، دعك من كتب التاريخ والجغرافيا والاجتماع التي تعيد تركيب المجتمع الفلسطيني في الشتات بكامل صفاته ولكن في مكان جغرافي آخر، وتعيد تركيب الوطن الذي حرموا منه بكل ما يحمله الشوق والخيال والحسرة والإصرار على العودة من تضاريس وألوان.

وفي نفس الوقت، أقام اليهود، الذين أصبحوا يسمون إسرائيليين، ستاراً حديدياً حول الوطن الضائع، تجسيداً لمقولة جابوتنسكي بأنه لا يمكن لإسرائيل أن تعيش إلا إذا طردت العرب وأقامت حول نفسها ستاراً حديدياً من القوة.

لم يعرف العرب بعد النكبة ماذا يدور خلف هذا الستار، بسبب العزل الكامل الذي فرضه كل طرف على نفسه. عاش اليهود خلف هذا الستار الواقي محتمين بقوة عسكرية صدت العرب. وبلغة ميتة بدأت تعود إلى الحياة لا يعرفها العرب، فأصبحت أشبه بشفرة سرية يتكلمها أفراد العدو بينما يعرف هذا العدو لغة العرب، وبأسلوب حياة غريب على العرب، وحتى على الأوروبيين، على شكل حياة جماعية شيوعية المبدأ تمجد الجندي /المزارع الذي يحارب في الليل ويزرع في النهار.

ولم يعرف العرب، عن جهل أو تجاهل، ماذا حدث للوطن الضائع، ماذا حدث لمئات القرى والمدن، ماذا حدث لتلك البيوت التي هُجرت تحت القصف وترويع المذابح، وبها الصور على الحائط، الطعام لا يزال ساخناً في المطبخ، الفراش المبعثر، الزهور التي تركت دون أن تسقى، القطة أو الكلب الذي بقي دون صاحبه. ماذا حدث للمساحات الشاسعة من الأراضي المزروعة، للمحصول الذي نضج ولم يحصده صاحبه، لبساتين البرتقال والزيتون الذي ينتظر القطاف، لآلاف الماشية والأغنام التي تركت هائمة دون ماء تشرب أو طعام تأكل.

خرج الناس وفي قلوبهم "نكبة" النفس، وتركوا خلفهم "نكبة" المكان، حياة ومجتمعاً وتاريخاً انتزعت منه الجغرافيا وبقيت في مكان آخر.

بعد نصف قرن، يأتينا هذا الكتاب: "المكان المقدس" 1 يشرح فيه ميرون بنفنيستي، كيف تم تدمير "المكان المقدس" الفلسطيني ليقام على أشلائه مكان إسرائيلي يستجدون له ثوباً من القداسة، واسعاً مهلهلاً كثير الثقوب لا يخفي معالم الخطيئة الأولى التي صنعت مكانهم هذا.

يجب أن نعترف أن ميرون بنفنيستي يكتب عن المكان بعاطفة جياشة نحوه. وبصراحة غير معهودة عن الجرائم الإسرائيلية في حق الفلسطينيين. أكاد أحياناً أتخيل أن المؤلف فلسطيني، لولا أن الصهيونية تطفو من وقت لآخر على السطح عندما نجده يتوقف عن وصف الفظائع وينكر الحقوق عند حاجز لا يعبره إلا بتبرير أو تفسير. ولا غرو، فالكاتب لا ينسى طفولته عندما كان أبوه، الصهيوني العتيد، يأخذه للطواف في كل أنحاء فلسطين، ليعرفه على "بلادنا"، وعندما كان أبوه يكتب كتباً لتدريس الناشئة الصهيونية عن "أرض إسرائيل" ربما كانت لديه عاطفة عن المكان وهو اليهودي السفاردي الذي عاش أجداده بين العرب في الأندلس أزهى عصورهم هذه العصور أنجبت فيلسوفهم الفذ موسى بن ميمون (ميمونيدس)، الذي لم يجد له مأوى، عندما طرد الكاثوليك الأسبان سكان البلاد من عرب ويهود، إلا في القاهرة ليموت فيها، مفضلاً إياها عن صفد الفلسطينية ذات المدارس الدينية اليهودية. يقول المؤلف إنه تعلم حب البلاد منذ صغره، ويوحي كتابه بأنه لا يتفق مع كل المبادئ الشمولية الصهيونية التي تعلمها صغيراً، ولكن بقي له من هذه المبادئ ما يكفيه لأن يعيش في إسرائيل على أرض فلسطينية، إن لم يكن فعلاً فمجازاً، ولأن يرفض عودة صاحب الأرض، الذي يعطف عليه في كتابه، إلى "المكان المقدس" الذي يملكه هذا اللاجئ المحروم من العودة، ويسكنه الآن أغراب عن هذا المكان وعن طبيعة الحياة التي سادته قروناً عديدة

عمل المؤلف في جهاز الاحتلال الإسرائيلي الذي سيطر على الضفة الغربية، وقام بأول جرد علمي يسجل مظاهر الحياة فيها من سكان واقتصاد وتعليم، وكان نائباً لرئيس بلدة القدس، التي تفخر بضم القدس العربية لها وإنشاء مساكن وخدمات لأكثر من 150ألف مستوطن يهودي بينما لا تخجل من أنها لم تقدم شيئاً على الإطلاق لسكانها الفلسطينيين الذين يتجاوز عددهم 200,000.

هو إذن يعرف أين يقع الخطأ والصواب، ويقف إلى جانب الخطأ الإسرائيلي ويمتنع عن الدفاع عن الصواب الفلسطيني. هو واحد من هؤلاء المؤرخين الإسرائيليين الجدد - هل نقول المعترفين الجدد - الذين يجهرون لأول مرة بما كان يردده الفلسطينيون منذ خمسة عقود ولا مجيب. لماذا يقولونه الآن؟ هل يشعرون بأن قوة الباطل تغلبت على ضعف الحق؟ ربما لكنهم يذكرون الحقائق كسرد تاريخي مجرد، في فضاء عقيم، ويتراجعون عن استخلاص العبرة منها والمسؤولية عنها والدعوة إلى إصلاح خطيئة إسرائيل الأولى. نستثني من هؤلاء المؤرخين. إيلان بابي، ونورمان فنكلشتين إلى حد ما، الذين يصفان الجريمة ويصفان مرتكبها ويدينانه.

يبدأ الكتاب بسرد وقائع النزوح منذ قرار الأمم المتحدة بالتوصية بتقسيم فلسطين إلى دولتين: دولة يهودية على 54%، من مساحة فلسطين، لمن يملكون 5% فقط منها، ونصف سكانها عرب، ودولة عربية على مساحة 46% لمن يملكون 95% منها ولا يوجد بين سكانها يهود. هذا الظلم الفادح قابله العرب بالاحتجاجات والمظاهرات، وقابله اليهود الذين كانوا يستعدون لهذا اليوم من زمن، بنسف البيوت العربية في أبو كبير ودير أيوب، واقترفوا أول مذبحة في الخصاص وأجلوا أهالي قرية عزّون. كل هذا في أول شهر بعد التقسيم ولم ينقض عام 1947 بعد.

يقول المؤلف أن هذا كان بداية نشوء “مبدأ الردع” أو الانتقام في السياسة الإسرائيلية، الذي استعملته إسرائيل لترويع الأهالي وتدمير القرى، خصوصاً في الخمسينيات عندما اقترف مجرم الحرب أريل شارون مذابح قبية والبريج والعزازمة. لم يكن هذا المبدأ نتيجة عارضة للصراع، كما يذكر المؤلف، لأن نظرية الصهيونية كانت، وما زالت، تقوم على أساس الاستيلاء على الأرض وقتل السكان أو طردهم أو التخلص منهم بأية طريقة. وحيث أن عدد العرب كبير وإمكانياتهم الاستراتيجية كبيرة، ترى إسرائيل أنه يجب ألا تتاح لهم فرصة الاستفادة من هذه المميزات أو تقوية روحهم المعنوية بإمكانية استعمالها. ولذلك تضرب إسرائيل أماكن صغيرة بقوة كبيرة في وقت ومكان تختاره لتعطي المثل على قوتها التي لا تقهر.

في نهاية مارس 1948، قبل أن يبدأ الغزو الإسرائيلي، تمكن اليهود من طرد 50,000 لاجئ من ديارهم واقترفوا مذبحة في سعسع قتل فيها ستون شخصاً. بعد ذلك مباشرة، في أوائل إبريل 1948 نفض بن جوريون الغبار عن خطته لغزو فلسطين التي أعدها قبل 4 سنوات، ومرت بأربعة تعديلات آخرها خطة "دالت" وأصدر أوامره لجيش قوامه 65,000 جندي صهيوني مدرب، ضباطه خاضوا غمار الحرب العالمية الثانية، بتدمير المجتمع العربي في فلسطين، بأهله ومؤسساته وقراه ومدنه، وباختصار إزالة كل آثار المكان الإنسانية والعمرانية، لا يبقى لليهود فيها إلا قاع صفصف ليس فيها ديار أو نافخ نار.

تقضي الخطة دالت، التي نشرها بالعربية المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي، ويشرحها المؤلف، بتدمير القرى وطرد السكان إلى خارج "الدولة" (لم تكن دولة إسرائيل قد أعلنت بعد ومع ذلك ذكرت بالاسم)، والقضاء على أية مقاومة مسلحة والإبقاء على قوات في القرى المحتلة (لمنع عودة أهلها). حددت الخطة بالتفصيل القرى التي ستحتل في كل منطقة ومراكز الشرطة والمؤسسات العامة والمواصلات وغيرها.

ومن يقف أمام هذا كله؟ الجيش البريطاني، الذي يلزمه صك الانتداب بحماية الأهالي ورعايتهم إلى أن تقوم دولتهم في كل فلسطين، حزم حقائبه وبدأ في الانسحاب من فلسطين لكي ينتهي منه في 15/5/1948 لم يتحرك هذا الجيش لحماية الأهالي حتى عندما استغاث به الأهالي أثناء مذبحة دير ياسين التي حدثت على بعد 5 كم من مكتب المندوب السامي البريطاني.

كان الاستعداد لتدمير فلسطين شاملاً لأدق التفاصيل. يسرد المؤلف قصة "ملف القرى" الذي أعده الصهاينة لكل قرية على مدة عدة سنين سابقة. لقد سجلت في هذا الملف خصائص كل قرية: مساحة أرضها واقتصادها وماذا تزرع، وأسماء المختار (العمدة) وأقاربه وأصدقاؤه وأعداؤه، ومكان مضافته وتخزين المحصول وبئر الماء. وكان ذلك يتم خلال ما يبدو أنه زيارة بريئة للمستعمرين الذين يرتدون الزي العربي ويتحدثون اللغة العربية. يدخل هؤلاء إلى القرية للزيارة أو الضيافة أو لشرب الماء، ويسجلون كل صغيرة وكبيرة. (لا تزال فرقة المستعمرين تعمل حتى اليوم ويسمونها فرقة الموت، إذ تتغلغل بين المتظاهرين وتهتف معهم وتغتال قادتهم).

كان بن جوريون ينتظر، وخطته جاهزة منذ 4 سنوات، إلى أن يتأكد أن خروج بريطانيا من فلسطين مؤكد، ويتفرغ لمواجهة شعب أعزل، يدافع عنه 2500 مناضل شعبي موزعين على عدة مئات من القرى والمدن دون سلاح فعال أو قيادة موحدة، وانضم إليهم فيما بعد 5000 متطوع سوري ومصري وآخرون من العرب دخلوا قبل أفول شمس الانتداب بقليل.

هذا هو الوقت الذي ينتظره بن جوريون ليضرب ضربته ويفوز بالغنيمة قبل أن تدخل القوات العربية النظامية التي منعها الإنجليز من الدخول أثناء الانتداب. كان تحسبه من هذه القوات مجرد زيادة في الحذر، لأن ضباطه وتقارير الدول الغربية (وحتى تقرير اللواء إسماعيل صفوت قائد قوات الجامعة العربية) أكدوا في بداية عام 1948 أن اليهود منتصرون لا محالة. لكن الحكام العرب تغاضوا عن هذه الحقيقة وفضلوا الزج بقواتهم، خوفاً من غضبة الجماهير وهي ترى ضياع فلسطين، لكي يقرر ميدان المعركة مصير هذا البلد المسكين.

يبذل المؤلف، مثل غيره من الإسرائيليين ومنهم بني موريس المشهور، جهداً كبيراً لإثبات أن "تدمير القرى" و"طرد السكان" ليس عملية تطهير عرقي منظمة في هذه الفترة على الأقل، وإنما هي من عوارض الحرب. لكن المؤلف يسلم بأن طرد الفلسطينيين كان عملية تطهير عرقي فيما بعد، ويحمل هذه المسؤولية إلى دولة إسرائيل بعد إعلانها، ورفعها عن نفس القادة والجيش قبل إعلان الدولة، وهذه فذلكة تاريخية. والدراسات الجدية، حتى تلك التي اعتمدت على موريس، أثبتت أن 89% من القرى هُجّرت بسبب عمل عسكري مباشر وأن 10% هجرت بسبب الحرب النفسية. وتبرير المؤلف جهد ضائع، لأنه بفرض أن تبريره فيه شيء من الصحة، لماذا لا يعود أصحاب البيوت إلى بيوتهم، ولماذا يقتل اللاجئ العائد إلى بيته بصفته متسللاً ولماذا تدمر القرى الفلسطينية، ولماذا توسع الاحتلال ليشمل الأرض العربية في الضفة وسيناء ولبنان وسوريا؟ حرب فلسطين 1948 لم تنته حتى اليوم، ولن تنته إلا بانتهاء الصهيونية.

كان أمام بن جوريون 36 يوماً قبل انتهاء الانتداب وخروج الإنجليز (الذين لم يقفوا في طريقه على أية حال) ودخول القوات العربية التي سيدخل معها حرباً نظامية، نظرياً على الأقل. كان عليه في هذه الفترة الاستيلاء على كل الأراضي العربية الواقعة بين المستعمرات لتوسيع الرقعة اليهودية وتواصلها وعليه فتح ممر بين تل أبيب والقدس (التي كانت منطقة دولية حسب مشروع التقسيم) وتدمير كل القرى في هذه المناطق وطرد جميع الأهالي من ديارهم، لجعلها خالية من العرب (عبارة تذكر بمقولة النازيين لجعل ألمانيا خالية من اليهود)، ولإعاقة تقدم القوات العربية فعلياً ومعنوياً بمنظر هذه القوافل الإنسانية من اللاجئين تتقدم نحو القوات العربية التي جاءت لإنقاذها.

نجح بن جوريون في تنفيذ خطته نجاحاً باهراً رغم تعثره في الاستيلاء على كامل مدينة القدس وهذه كانت خارج مشروع التقسيم. ودمر كثيراً من القرى العربية (بعد المعركة)، وتوج انتصاره بمذبحة دير ياسين عندما عُرض الناجون من المذبحة بملابسهم الرثة وحالهم البائسة في شاحنات تطوف بشوارع القدس الغربية ليتفرج عليهم اليهود ويشتموهم ويحقروهم ويبصقوا عليهم، في مشهد من أفظع مشاهد بربرية العصور الوسطى.

شاهد المؤلف نفسه هذا الموكب البربري، وكان فتى يافعاً ولم يثر هذا المشهد في نفسه من تعليق إلا وصفه بأنه "منظر مقرف" ويسارع إلى ذكر إحساس الغضب والعار الذي نمكن من غالبية سكان القدس اليهود الذين أصدروا بيانات استنكار. ونسى أنه ذكر في السطر السابق أنه شاهد هذا "المنظر المقرف" مع "آلاف من سكان القدس اليهود". ولا ندري إن كانت هذه الآلاف هي نفسها التي أصدرت بيانات استنكار.

حصيلة هذه الأيام الستة والثلاثين من الغزو اليهودي، ولا نقول الحرب لأن هذه فيها طرفان متوازنان، كانت احتلال 213 قرية وطرد 410,000 من سكانها (أرقام المؤلف أقل من الحقيقة خلال الكتاب كله كما هو متوقع، فهو يذكر 207 قرى و380,000 لاجئ فقط) ومضاعفة الأرض التي سيطر عليها اليهود 3 مرات (من 1500 كيلو متر مربع إلى 5000)، وبذلك أعلنت دولة إسرائيل على 13% من فلسطين.

لقد حُسمت المعركة لصالح إسرائيل في هذا الوقت المبكر وطردت أكثر من نصف اللاجئين قبل دخول القوات العربية المنقذة. هل كانت إسرائيل تخاف على وجودها من قوة العرب "الهائلة"؟ كلا، يخبرنا المؤلف، أنه حتى في مارس، بدأ اليهود في الاستيطان في القرى التي طرد أهلها. بدأوا أولاً بحصد المحاصيل التي خلفها اللاجئون وراءهم ومُنعوا من العودة إليها بقتل كل من يعود إلى بيته، ثم حرقوا كل المحاصيل التي لم يتمكنوا من حصادها. قبل الحرب بكثير، في بداية 1948، كانت اللجان الصهيونية قد وضعت خطة لاستيطان 1.5 مليون يهودي استعداداً لتدمير فلسطين وإحلال اليهود محل الأهالي الفلسطينيين. ولتسهيل ذلك أعطى بن جوريون أوامره لاحتلال القرى في مجموعات، وليس فرادى لكي تتكون "قطاعات محررة" يتم فيها الاستيطان على أرض الأملاك العامة وأملاك اللاجئين المطرودين.

لقد كان بن جوريون واعياً لحساب التاريخ المكتوب، ويعلم تماماً أن عملية التطهير العرقي وطرد السكان والمذابح وصمة في التاريخ الإنساني، وليس اليهودي فقط. ويذكر المؤلف حوادث عديدة، لم يسجل فهيا بن جوريون أوامر مكتوبة بل كان يجهر في السجلات بعكس ما ينوي، وكان يعطي الأمر الحقيقي بإشارة من يده أو نظرة من عينيه أو السكوت، ولم ينسب لنفسه عملاً إجرامياً (لعله كان يحسب حساب محاكم جرائم الحرب التي عقدت في نورمبرج قبل سنتين). فكان يحيل عمليات الطرد وإجلاء السكان وكافة عمليات التطهير العرقي في أوامر غير مباشرة إلى ضباط الجيش. ويحيل عمليات الاستيلاء على الأراضي العربية واستيطانها إلى لجان من الصندوق القومي اليهودي والوكالة اليهودية "لعمل اللازم". بإشارة من يده، أصدر أمره إلى رابين بإجلاء أهالي اللد والرملة بعد احتلالهما. وهكذا خرجت قافلة إنسانية من ستين ألفا في عز الصيف اللاهب، في رمضان/يوليو 1948، ومن يتوقف لشرب ماء يطلق عليه الرصاص. تساقط المتاع على جانبي الطريق، ثم تساقط الأطفال ثم الشيوخ. هذه الجريمة البشعة بقيت ولا تزال محفورة في صدور الآلاف، وتركت أثراً لا يمحى في حياة الكثيرين منهم الشهيد خليل الوزير، والدكتور جورج حبش، والفنان إسماعيل شموط والروائي رجائي بصيلة، ولكنها لا تستحق سطراً واحداً في كتاب المؤلف.

في فبراير 1948، قبل شهرين من بداية الغزو الإسرائيلي، قال بن جوريون لقادة الصندوق القومي اليهودي الذي يستولي على الأراضي: "الحرب ستعطينا الأرض. انسوا مقولة هذه لنا وهذه ليست لنا (أرض عربية). هذه كلها تعبيرات السلام. في الحرب تسقط هذه المعاني. وفي النقب لن نشتري أرضاً، سنحتلها، لا تنسوا أننا سنكون في حالة حرب" (ص120) كان بن جوريون يخطط لحرب شاملة، ليست مقصورة على القوات العسكرية، ولا تفرق بين المحارب والأعزل، حرب تدور حول كل بيت وكل قطعة أرض وكل كيلو متر من الطريق كما يقول. كانت حربه عسكرية واقتصادية ومدنية، يُقتل فيها الأطفال والنساء والشيوخ، وتسمم آبارها وترمي فيها جراثيم التيفود، ويُقتلع أناس من ديارهم ويتشردون لم يتردد في اقتراف أي عمل يؤدي إلى تدمير المجتمع الفلسطيني تدميراً كاملاً كشرط ضروري لإنشاء دولة إسرائيل على أنقاضه واستيطان المهاجرين في بيوت اللاجئين وعلى أرضهم.

لم يكن في هذا الواقع الدموي أي صفة من صفات تلك الأساطير والدعايات التي رددها الغرب نقلاً عن اليهود، وأشهرها داود الصغير المسالم المكافح بكل قواه الضئيلة ليبقى على قيد الحياة في بيته الصغير أمام جحافل قوات جوليات العربية التي ستأتي لسحق هذا المخلوق. كان بن جوريون يمارس كل أنواع التطهير العرقي في نفس الوقت ومن نفس المكتب الذي تصله فيه برقيات وتقارير مكاتب إسرائيل في الخارج عن الدعاية الصهيونية التي تشنها في الغرب، دون أن يهتز له جفن من هذه المفارقة.

يصف المؤلف في سرد تفصيلي يخلو من المبالغة والتعاطف في آن، كيف أن القوات اليهودية أجلت أهالي 60 قرية في الجليل الشرقي، قبل نهاية مايو، لتربط المستعمرات اليهودية بنهر الأردن وبحيرة طبرية، ولتكون جموع اللاجئين المطرودة سداً في وجه القوات السورية والعراقية التي ستتقدم نحو فلسطين.

وفي قرية صفصاف جمع اليهود الأهالي واختاروا 70 من شبابها صفوهم على حائط وقتلوهم بالرشاشات وتكرر الأمر في سعسع والصالحة وغيرها. وعلى مرأى من أهالي صفد، دمر اليهود بيوت قرية عين الزيتون المجاورة وذبحوا أهلها، لتتحطم روحهم المعنوية. وعندما سقطت صفد في 9 مايو سقطت حولها قرى كثيرة وطرد أهلها، بمن فيهم هؤلاء الذين وقعوا معهم اتفاقية بالمسالمة (مثل قرى الجاعونة وقيطية والخصاص)، وبدأوا على الفور بحصاد 15ألف دونم (الدونم 1000 متر مربع) من الأراضي العربية، وبدأ اليهود باستيطان القرى في 10 يونية والحرب لا تزال قائمة.

وتكرر الأمر بنفس الأسلوب وفي نفس الوقت ولنفس الغرض في القرى المحيطة بطبرية ومرج ابن عامر والجليل الغربي، وكلها مناطق ذات وجود يهودي في مستعمرات متفرقة غير مترابطة. والغرض كان ولا يزال توسيع الرقعة اليهودية وطرد السكان العرب منها. كان الجنود الإسرائيليون يتقدمون وخلفهم بخطوات رجال الاستيطان الذين كانوا أحياناً يوجهونهم نحو الأراضي المرغوبة. طلب بعضهم من الجيش تدمير قرية البطيمات لأن أرضهم امتداد لأرض يهودية، وطلبوا تدمير قرية إندور لأن أراضيهم مناسبة لتوسعهم. دمروا كل القرى بين أم خالد (نتانيا) وزمارين (زخرون يعقوب) لزيادة الاتساع الجغرافي، وارتكبوا عدة فظائع في أم زريق وقيسارية وزرنوقة، ولم يفرقوا بين من حاربهم ومن استسلم لهم حتى الذين كانت بينهم علاقات جيرة جيدة. عندما قيل إنه ليس لليهود عهد، لم يكن هذا من فراغ، فهو أمر يتكرر تجديده في كل آن.

وتبقى قصة قريتي طيرة حيفا والطنطورة مثلاً في الوحشية الإسرائيلية. نجد المؤلف هنا ينسى ذكر الأولى ويسرد وصفاً مبتوراً فاتراً للثانية بعد سقوط طيرة حيفا، اعتقل الإسرائيليون الشباب وقتلوهم في مجموعات بحيث تدفن المجموعة التالية من سبقها وتقتل بدورها، وأخذوا الباقي إلى معسكرات سخرة، وشحنوا النساء والشيوخ في سيارات لرميهم على خطوط القوات العربية. وهناك، وكان الوقت مساء يوم رمضان، طلبوا ماء للشرب، فأجلسوهم على أكوام حصيد القمح الناشف، وصبوا عليهم بنزيناً وأحرقوهم، وبينما كان هؤلاء الضحايا يصرخون ويستغيثون ولا يدرون أين يتجهون في الظلام كان الإسرائيليون يضحكون. قتل 55 شخصاً في هذه الفاجعة. أما الطنطورة، فقد قاومت حتى الصباح، وأخذ اليهود يجمعون النساء والأطفال ليشاهدوا جثث أهلهم، ثم أخذوا الشباب، وقتلوهم في مجموعات كل مجموعة من 40 شخصاً، يقتلون وتدفنهم المجموعة الثانية بنفس الأسلوب الذي كرروه في كل المذابح حتى بلغ عدد الشهداء أكثر من 200. وقد تداولت الأخبار في بداية 1999 قصة مذبحة الطنطورة لأن باحثاً إسرائيلياً "تيدي كاتس" كتب عنها، مع أن محمد نمر الخطيب نشر في كتابه عام 1951 كامل التفاصيل ونقلها عن شاهد عيان كان أحد الناجين من المذبحة. ولكن لم يهتم أحد بالخبر الذي رواه عربي.

تعرض الجليل إلى 25 مذبحة من أصل 35 مذبحة أمكن تسجيلها. ذلك لأن الجليل كان عربياً في اقتراح التقسيم وأرضه خصبة وسكانه رفضوا النزوح. لا تكاد قرية تكون قد سلمت من مذبحة صغيرة أو كبيرة، في سعسع وجش ومجد الكروم وعيلبون والبعنة ودير الأسد وغيرها كثير. وفي الجنوب، حيث لا يوجد إلا القليل من اليهود (نصف في المائة من السكان) متناثرين في أماكن متباعدة، قرر بن جوريون الاستيلاء على الجنوب بأكمله، الذي دافع عنه المناضلون، إلى أن دخل الجيش المصري. فاحتل اليهود 12 قرية في الربيع قبل دخول القوات المصرية، 34 قرية في الصيف عدد سكانها 160,000 حسب المؤلف (والصحيح 150 قرية عدد سكانها 193,000). بهذا الاحتلال أضيفت إلى مساحة إسرائيل 15 ألف كيلو متر مربع، أي تسعة أضعاف الأرض اليهودية، معظمها بعد توقيع اتفاقية الهدنة مع مصر.

واقترف الإسرائيليون مذابح في بئر السبع وبرير وغيرهما، لكن أبشع مذبحة في تاريخ فلسطين كانت في قرية الدوايمة. يقول مختار القرية أن عدد الضحايا وصل إلى 500، قتلوا بالرصاص والحرق في المسجد، وقتل الأطفال بالضرب على رؤوسهم بالشواكيش.

كل هذا مسجل في صدور الناجين وفي الكتابات الفلسطينية، وظهر أخيراً في ملفات الأمم المتحدة والصليب الأحمر (الأخيرة فتحت ملفاتها بعد 50 سنة) والآن تظهر هذه القصص في كتب المؤرخين الجدد مثل بني موريس. ويذكر المؤلف بعض هذه الفظائع بألم وأسف لكنه لا يرقى إلى درجة الإدانة أو المطالبة بالجزاء كما يفعلون مع أمثالهم من مجرمي الحرب الألمان.

ودائماً تمارس إسرائيل مسرحية المظاهر الحضارية، ففي معظم الحالات، تتكون لجان تحقيق قي هذه المجازر، ولا تجد أدلة كافية أو تعاقب بعض المسؤولين بعقوبة تافهة. كتب العقيد هندرسون أحد مراقبي الهدنة التابعين للأمم المتحدة في نوفمبر 1948: "إن هذه الفظائع كثيرة وليس لدينا الوقت والجهاز لمتابعتها". وقال إنه عندما يطلب المراقبون استدعاء ضابط مسؤول عن مجزرة لا يعثر عليه الإسرائيليون.

وبالطبع يشارك بن جوريون في هذه المسرحية بإدانة "الأعمال المشينة"، ويرتل أبياتاً من قصائد الشاعر المشهور ناثان الترمان الذي استنكر هذه المجازر. وهذا الأداء الرخيص لم يمنع أن كل هذه الجرائم كانت معروفة لكبار المسؤولين في الحكومة ولقادة الجيش بالطبع وحتى للشعب (ص153) بل إنها تمت بأوامر منهم، كما بين موريس بعد مراجعته لكتابه الأول.

"وتعرج الطريق بين الجبال وبدا لي بهاء الجليل في أروع صورة، في ابتسامته القرمزية، لم أره من قبل مثل ذلك. كان مفعماً بالحياة. قطعان الماشية تصعد الجبال وتهبط الوديان، أجراسها تدق، والرعاة خلفها، يغنون ويصيحون كشخوص من الماضي السحيق. والآن ساد صمت رهيب على هذه الجبال، تنبعث خيوطه من قرية خالية. قرية خالية! ما أفظع هذا! حياة تجمدت، تحولت إلى همسات في الريح، إلى طابون انطفأت ناره، إلى مرآة مكسورة، إلى كومة من التين المجفف في الشمس، إلى كلب نحيل يمشي وحيداً في الطرقات الخالية000 وفجأة انبعث من داخلي شعور عميق الجذور، الشعور بالنصر، الشعور بالسيطرة، الشعور بالانتقام. لقد رأيت هذه البيوت الخالية خير مكان لاستقبال اخوتي اليهود الذين تشردوا من جيل إلى جيل".

هذه الكلمات الشاعرية التي تحولت فجأة إلى شعور بالانتقام ونشوة النصر، كتبها يوسف فايتز في مذكراته بعد أن أخذ يجول في القرى المهجورة التي طُرد أهلها بالسلاح في جنح الظلام. لقد تحول الشاعر إلى جلاد، وهو الذي امتاز بين قادة الصهاينة بأنه أول وأهم منفذ لعملية التطهير العرقي في أكبر عملية منظمة في القرن العشرين. فايتز هو مسؤول الأراضي في الصندوق القومي اليهودي، وأول رئيس للجنة الترانسفير (الترحيل).

كانت أول مظاهر "النصر" تدافع اليهود الجنوني لنهب البيوت العربية، وهو الأمر الذي كانوا يتكتمون عليه إلا في كتاباتهم الأولى بالعبرية. يقول الكاتب المشهور موشي سيملانسكي: "لقد أخذتهم حمى النهب: أفراداً وجماعات، رجالاً ونساء وأطفالاً، وانقضوا كالجوارح على الضحية، يحملون كل شيء: الأبواب والشبابيك والملابس والبلاطالخ".

يقول المؤلف: دخلوا البيوت الجميلة وحملوا منها ما يستطيعون من أثاث ومتاع وأدوات منزلية، وفكوا ما يمكن فكه حتى الأنابيب والمضخات في بيارات (بساتين) البرتقال، وساقوا الماشية أمامهم. على أن أكبر غنيمة لهم هي مدينتي اللد والرملة بعد إجلاء سكانها، حمل منها الجيش الإسرائيلي حمولة 1800 شاحنة، وانضم إلى موكب الناهبين قائد الكتيبة الخامسة بكل قواته، إذ حوّل مساره إلى الرملة للمشاركة في النهب. وذهب بن جوريون نفسه ليرصد هذه الثروات كما جاء في مذكراته في 20 يوليه. وفي القدس وزعت عشرات البيوت الحجرية الجميلة على قادة حزب الماباي وكبار قادة الجيش (يعلن اليوم عن بيع هذه البيوت في الصحف الإسرائيلية "بيت عربي جميل" بملايين الدولارات). وكما ذكر سيجيف، جاء في تقرير أولي للحارس على أملاك العدو: "سجلنا 45,000 بيت، و8000 محل تجاري، 50 مصنعاً، لكن معظم موظفي دائرتي هم من اللصوص الذين يسرقون هذه البيوت". وما لم يستطيعوا حمله، حطموه أو أحرقوه. كان هذا مصير مئات الدونمات من محصول القمح، وذلك لمنع اللاجئين من العودة وكجزء من الحرب الشاملة التي تحرم العدو من الغذاء.

حتى برتقال يافا المشهور عبر القرون لم يسلم من يد التدمير. بعد أن سرق اليهود الأنابيب والمضخات، لم يعد بالإمكان سقاية الشجر، خصوصاً أن العمال العرب اصبحوا لاجئين، واليهود مشغولين بجمع الغنائم. وهكذا أهملت بساتين البرتقال العربية في يافا التي تبلغ مساحتها 150,000 دونم وبعد أن استقرت الأمور لم تستطع إسرائيل إحياء أكثر من خُمس هذه المساحة.

وأشجار الزيتون التاريخية، رمز السلام وتاريخ فلسطين، مورد زيت الزيتون، عماد الغذاء والصحة، اجتثت على مساحات عشرات الآلاف من الدونمات (ص195) في أكبر جريمة تاريخية بيئية، وزرع مكانها محاصيل يفضلها اليهود ويعرفون كيف يزرعونها. هذه هي الحقيقة وراء أسطورة "تحويل الصحراء إلى جنة".

وكانت بداية تدمير القرى قبل نهاية الانتداب على يد النهابين واللصوص، وغالبيتهم من سكان المستعمرات القريبة والجيران اليهود في المدن الذين يعرفون مسبقاً أين توجد الغنائم. ثم أصبح سياسة عسكرية بعد الانتداب. لكن بن جوريون تراجع عن الأمر العلني خوفاً من الشجب الدولي الذي يعتبر تدمير القرى من جرائم الحرب. فأصدر قراراً بمنع التدمير إلا لأسباب عسكرية وأمنية، وترك تفسير ذلك للجيش دون مراجعته. ونعرف بالطبع نهاية القصة.

كان تدمير القرى واحداً من ثلاث طرق استعملتها إسرائيل كوسيلة لمنع عودة اللاجئين، كأنما تدمير البيت يمنع صاحب البيت أن يبني بيتاً جديداً على أرضه لو عاد. وكانت الطريقة الثانية سياسية. بعد خروج الإنجليز وانتصار إسرائيل في الجولة الأولى على العرب وشعورها بالقوة، أصبح منع عودة اللاجئين هدفاً سياسياً معلناً منذ يونيه 1948، اتخذته إسرائيل في مراسلاتها الدبلوماسية، خصوصاً عندما رأٍى الوسيط الدولي برنادوت بنفسه هول مأساة اللاجئين وأصر على عودتهم. أما الطريقة الثالثة التي اتبعتها إسرائيل فهي الإسراع بإحضار مهاجرين يهود من البلاد العربية وتوطينهم في القرى العربية (والادعاء فيما بعد أن هذا استبدال شرعي للسكان).

يصف المؤلف هذا الاستيطان بصراحة غير معهودة. نقل هؤلاء المهاجرون من مخيم الوصول (فيما يسمى بالمعبرة) إلى القرى العربية الخالية باعتبارها أقرب إلى طريقة معيشتهم في البلاد العربية. لقد قرر القادة الأشكناز العنصريون أن هؤلاء المهاجرين من اليهود العرب يناسبهم هذا المكان فهم "متخلفون، ليس لديهم تعليم على الإطلاق، وليس لهم إدراك ذهني، ومن المؤكد أنهم أقل مستوى حتى من العرب الذين طردناهم". بدأ موظفو الاستيطان بتدريبهم على الزراعة وكيف يحملون الفأس والمنجل وكيف يسقون النبات، وأعطوهم منحة مالية ليتدبروا أمورهم، وتركوهم في القرية العربية. جلس هؤلاء في حلقات "يلبسون معاطف ثقيلة ويتبادلون كلمات قليلة وتبدو عليهم مظاهر التعاسة". لم تكن لديهم ثقة في الأشكناز ولا في الآخرين. لم يناموا الليل. رأوا ما بقى من متاع أهل البيت العرب ومظاهر حياتهم السابقة، وتملكهم الفزع خوفا ًمن أن صاحب البيت سيهجم عليهم في منتصف الليل. قالوا لهم أن المتسللين (أصحاب البيت العائدين) قد يذبحونكم في الليل، وها نحن نذهب إلى قراهم في الضفة (قبية) وفي غزة (البريج) ونذبحهم هناك قبل أن يأتوكم.

(الآن بعد 50 سنة، انتقم اليهود الشرقيون (المزراحيم) من أسيادهم السابقين بأن انتخبوا القصاب (الجزار) رئيساً لدولة إسرائيل).

لكن مصاعبهم لم تنته إذ كان الأشكناز سكان المستعمرات اليهودية القديمة أول من نهب البيوت العربية واستولى على أحسن الأراضي الزراعية حولهم، حتى قبل أن توزع الحكومة هذه الأراضي عليهم. والآن يريد هؤلاء الأشكناز أن يعمل المهاجرون الشرقيون عمالاً زراعيين لديهم، لأنهم لا يصلحون لشيء آخر.

وعندما حاول المهاجرون الذين استوطنوا قرية عاقر بناء مساكن لهم بالطوب الإسمنتي على أرض مجاورة للقرية، هب المستوطنون في مستعمرة جفعات برينر معترضين على هذا التبذير في تلك الأرض الزراعية الخصبة التي تصلح لهم فقط، وما هؤلاء المهاجرين إلاَّ عمال عندهم وقام شبابهم بتكسير الطوب وبضرب المهاجرين.

وبالمقابل، لم يسمح للأهالي العرب الذين بقوا تحت حكم إسرائيل بالعودة إلى بيوتهم، فصنع هؤلاء لأنفسهم مأوى تحت الأشجار وبين الصخور على قرب من بيوتهم يراقبونها من بعد. وكلما نقلوهم إلى مكان، عادوا إلى حدود القرية أملاً في العودة. وكما تملكت المهاجرين خيالات الرعب من عودة أصحاب البيت وهم فيه، تملكت هؤلاء الذين يراقبون بيوتهم من التلال المجاورة، خيالات من نوع آخر. تصوروا أن الشياطين والعفاريت ستسخط هؤلاء المهاجرين، وخيل لهم أنهم يرون في ظلام الليل عيوناً للشياطين تنتقل بين المنازل، وأنهم يرون رأي العين أن أصحاب البيت سيعودون إلى بيوتهم لا محالة بعد الخلاص من هذه الشياطين.

أما الأرض الزراعية فقد استولت عليها المستعمرات القريبة منها، قبل أن تبدأ الحكومة في إقامة سلسلة مزيفة من القوانين التي تحلل ذلك. ضمت إسرائيل كل أراضي "الغائبين"، وهم السكان العرب الذين طردوا ولم يتواجدوا في قراهم في تاريخ معين والذين منعوا من العودة إلى ديارهم فأصبحوا لاجئين. وامتدت التسمية إلى الباقين في إسرائيل حتى لو تواجدوا يوم الإحصاء في قرية مجاورة، أو لو غابوا يوم الإحصاء ولو ليوم واحد. هؤلاء يسمونهم "الغائبين الحاضرين"، وصودرت أراضيهم أيضاً رغم أنهم يحملون الجنسية الإسرائيلية وعددهم اليوم 250,000 أي خُمس الفلسطينيين في إسرائيل.

ويتم الاستيلاء على الأرض بطرق أخرى منها قانون الأرض غير المفتلحة، الذي يقضي بالاستيلاء على أي أرض لم يفلحها صاحبها لمدة 3 سنوات. لكن كيف يفلحها صاحبها وهو مطرود منها وممنوع من العودة، ولو عاد لاعتبر متسللاً تطلق عليه النار على الفور؟ ولو طمعت الحكومة في أرض وتواجد صاحبها فيها، أعلنتها منطقة "مقفلة" لأسباب عسكرية وأمنية، وهذا معناه أن صاحها ممنوع من دخولها. وبعد فترة تستولي عليها الدولة باعتبارها أرضاً غير مفتلحة حسب القانون.

هذا النهب الصريح المبرر بسلسلة من القوانين المخادعة أدى إلى مصادرة ما يزيد على 17,000,000دونم (17 ألف كيلو متر مربع) منها 4.5 مليون دونم في وسط وشمال فلسطين، و12.5 مليون دونم في اللواء الجنوبي. هذا عدا حوالي 1.5 مليون دونم هي أرض الفلسطينيين الباقين (صودر الآن ثلثها)، فيكون مجموع الأرض الفلسطينية 92% من مساحة إسرائيل، تديرها الآن "دائرة إسرائيل للأراضي" وتؤجرها لليهود، ويمنع تأجيرها أو تطويرها أو الإقامة فيها لأي شخص أو جهة غير يهودية.

كان الكيبوتز عماد الفكر الصهيوني يمثل سكانه حتى اليوم نخبة المجتمع الإسرائيلي في الجيش والكنيست. لذلك خصصت لهم أجود الأراضي، وهم الذين يستغلون معظم الأراضي الفلسطينية. إلا أن أسطورة اليهودي المزارع تبخرت، ورغم جودة الأراضي، وتخصيص ثلاثة أرباع المياه في إسرائيل لهم بسعر أقل من التكلفة، ورغم المعونات المالية وإسقاط الديون المتراكمة عليهم، لم ينجحوا في إنتاج أكثر من 1.8% من الناتج القومي. ولذلك عمدت إسرائيل إلى بيع أراضي اللاجئين المؤجرة لهم لإقامة عمارات سكنية يشتريها أي يهودي في العالم. وقد أثارت الثروة المفاجئة التي هبطت عليهم حفيظة سكان المدن. وهذا البيع والتصرف بالأملاك الواقعة تحت الحراسة مخالف للقانون الدولي بالطبع، بجانب كونه علامة على الإفلاس الإيديولوجي للصهيونية.

أما المستوطنون فقد وجدوا أنه من المريح لهم العيش في حالة من فقدان الذاكرة الجماعي بتجاهل وجود الضحية. وذلك بإزالة الآثار المعنوية، وليس المادية فقط، لكل مظاهر الحياة التي عاشها ضحاياهم، لكي تكون عملية التطهير العرقي كاملة. لأنه لو وجدت الضحية لوجد المجرم. لذلك أصبح أي تذكير بوجود الضحية من المحرمات. ووصلوا في ذلك إلى درجة كبيرة من خداع النفس. مثلاً، تملك عائلة الماضي الغنية في قرية اجزم قصراً بني في القرن السابع عشر، حوله المستوطنون إلى متحف ثم أصبح مسكناً لعائلة يهودية هامة وأصبحت المدرسة كنيساً يهودياً، والمقبرة متنزهاً عاماً. ثم ادعى اليهود أن هذا القصر الفلسطيني هو بقايا قلعة صليبية، وأسبغوا هذه الصفة وغيرها على معالم عمرانية أخرى، لإنكار أنه بالإمكان أن يكون هذا المبنى الجميل عمارة فلسطينية طرد صاحبها منها. ويذكر المؤلف أن 40 مسجداً من أصل 140 (العدد الحقيقي حوالي 1500) بقيت دون هدم، لكنها تركت مهملة ومنع ترميمها. ولكنه لم يذكر أن بعضها تحول إلى متحف مهمل مثل مسجد بئر السبع الذي رفضوا السماح للمسلمين بالصلاة فيه وتحول البعض الآخر إلى مطعم وبار، أو إسطبل للخيول مثل جامع الكوفخة.

والقرى العربية ذات الآثار التاريخية تم ترميمها وإزالة الآثار العربية فيها واختراع تاريخ إسرائيلي مجيد لها، إذا كان ذلك مناسباً، وإذا لم يمكن ذلك، تطمس تلك الآثار وتدمر القرية. حدث هذا في قيسارية وكوكب الهوا. أما قرية عين حوض الجميلة فقد تحولت إلى قرية للفنانين، مثلها مثل الحي القديم في يافا، وأهل القرية الذين بقوا في إسرائيل منعوا من الإقامة فيها، فأنشأوا مساكنهم لهم قرب قريتهم يراقبونها عن بعد، واعتبرت مساكنهم قرية (غير معترف بها)، أي لا تظهر على الخرائط ولا تصلها المياه والكهرباء وخدمات التعليم والصحة.

وفي حمى تدمير العمارة الفلسطينية وبناء علب خرسانية قبيحة لاستقبال المهاجرين على أنقاضها، دمرت إسرائيل جزءاً لا يعوض من تاريخ فلسطين. يقول الزوجان عالما الآثار دوثان، أنهما اكتشفا بالصدفة تدمير تل مُرّة قرب أسدود، أثناء إنشاء طريق نحو الميناء. وتل مُرّة هذا يحتوي على آثار لا نظير لها للبالشتيين (الفلسطينيين القدماء الذين استوطنوا في القرن الثالث عشر قبل الميلاد).

وحدث مثل هذا التدمير في كثير من المستوطنات، عند حفر الأساسات أو حرث الحقول على عمق كبير. وكما يقول دوثان، لقد تحطمت كثير من الآثار وضاعت سجلات تاريخية للأبد، إلا ما تمكن اللصوص من اقتنائه، ومن أهمهم موشي ديان، الذي حصل لنفسه دون إذن أو تسجيل، على مجموعات تكفي لمتحف صغير.

ولم يقتصر التدمير على قطع أثرية، بل أزيلت من الوجود 418 قرية عربية التي أمكن معاينتها من أصل 531 قرية، دمر الثلثان منها تدميراً كاملاً والثلث الباقي دمر بدرجة أقل وتعيش فيه بعض العائلات اليهودية. وبعض القرى التي أزيلت كانت منارة مضيئة في التاريخ الفلسطيني بتراثها العريق المتمثل في أسمائها القديمة مثل: عمواس ويالو وبيت نوبا وأكارون وسيفورس واليثروبوليس وكريثتيس وشافير وبيت داجون، وجمزو وجابيل وأزتياه ونبلات وإيتام وجبعة. هذا هو الوجه البربري للصهيونية!.

"اختلاق التاريخ الإسرائيلي وتغييب التاريخ الفلسطيني"، الذي وصفه كيث ويتلام في كتابه الشهير، لم يقتصر على التاريخ القديم. يصف المؤلف في فصل ممتع كيف تكونت لجنة من الخبراء أشرف عليها بن جوريون نفسه في مطلع إنشاء الدولة لكي تزيل من الخرائط كافة الأسماء العربية والإسلامية وتخترع لها أسماء عبرية، لكي تعطي الأماكن المحتلة شهادة ميلاد شرعية، تنفي عنها صفة اللقطاء. كان هذا صعباً جداً لأنه حتى الأسماء المذكورة في التوارة كنعانية نقلت إليها كما كانت معروفة في ذلك الحين. استمرت اللجنة في عملها حوالي 8 سنوات (ولا زالت موجودة لتسميات جديدة) لتطمس الأسماء التي وجدتها في خرائط فلسطين البريطانية. ومع ذلك، كانت حصيلة عملها أن اختارت 333 اسماً (من أصل 523) إما محرفة من العربية أو وضعت لها أسماء عبرية مشابهة صوتياً للأسماء العربية - كل هذا النحت والتزويق والتزوير لإعطاء صبغة عبرية لأرض لم تكن، لا في زمان أو مكان لهما شأن في تاريخ فلسطين الطويل، أرضاً عبرية. ووصل الأمر إلى حد مضحك، فتحول وادي ردادي إلى ناحال روديد، وأبو جروال إلى جورال، وأبو روثة إلى روث، وبيت دجن إلى بيت داجون، وفرادية إلى فارود، ودلاته إلى دالتون، وزرعين إلى يزرائيل، وكسلا إلى كاسلون ويبنه إلى يافنه. كان هذا جهداً يائساً لطمس تاريخ عريق امتد 4 آلاف عام، وكان جهداً كبيراً أيضاً لأنه عندما بدأت اللجنة عملها في إزالة وتغيير الأسماء كما ظهرت في الجريدة الرسمية لحكومة الانتداب لم يكن أكثر من 5% من الأسماء عبرياً، والباقي عربياً، رغم الاستيطان اليهودي لمدة 30 عاماً تحت المظلة البريطانية.

اعترف بأن هذا الكتاب ممتع ومشوق ومؤلم أيضاً، ربما لأنه يأخذ القارئ العربي في جولة فريدة مليئة بالتفاصيل والمفارقات والمآسي لفلسطين التي تركناها بعد النكبة. ولا يملك المرء بعد قراءته إلا أن يشعر للمرة الألف، إن لم يكن يشعر كل يوم بعد عام النكبة، بفداحة هذه النكبة وعظيم جرمها وهول بشاعتها.

يصف الكتاب، عن غير قصد طبعاً، الحوادث التي تبين دون شك أن تدمير فلسطين بناسها وعمرانها وتاريخها كان شرطاً أساسياً في الخطة الصهيونية لإنشاء دولة إسرائيل. فإجلاء الأهالي عن ديارهم، في أكبر عملية تطهير عرقي منظمة في التاريخ الحديث، كان خطة سارية وإن كانت غير معلنة قبل نهاية الانتداب البريطاني، نفذتها العصابات الصهيونية التي أصبحت تسمى فيما بعد جيش "الدفاع" الإسرائيلي. كانت هذه أول مرحلة، وبعدها بدأت المرحلة الثانية في 8 يونية، عندما قررت الحكومة المؤقتة لإسرائيل أن تتخذ قراراً سياسياً بمنع عودة اللاجئين، أبلغت به الدول الأجنبية والأمم المتحدة، بحجة أن العائدين إلى ديارهم سيكونوا طابوراً خامساً يهدد سلامة إسرائيل. والمرحلة الثالثة عندما أسرعت:بتطفيش" اليهود من العراق والمغرب واليمن، ليسكنوا في القرى الفلسطينية - رغم أن هؤلاء لاقوا من سوء المعاملة ما لو عرفوه لم يهاجروا من ديارهم أبداً.

كان بن جوريون يعلم حق العلم أن السلام ضار بإسرائيل، فهو يريد تأمين غنائم الحرب، ولو وافق على السلام لخسر الأرض وعاد اللاجئون (ص 151) لذلك أفشل جميع محاولات الصلح في لوزان (1949-1951) وخطط لحرب العدوان الثلاثي عام 1956 ليحول خط الهدنة إلى حدود دائمة مقبولة.

إذن لولا إجلاء الفلسطينيين وتدمير قراهم وإحلال مهاجرين يهود مكانهم لبقي أهالي 531 مدينة وقرية في ديارهم وهم الآن لاجئون عددهم الآن خمسة ملايين، ولبقي 92% من مساحة إسرائيل أرضاً فلسطينية، ولبقى الفلسطينيون ثلثي السكان واليهود الثلث، وهؤلاء اليهود معظمهم مهاجرون، شرعيون وغير شرعيين دخلوا البلاد خلال عهد الانتداب، ووجدوا أمامهم نسل 56 ألف يهودي فقط كانوا في فلسطين عندما دنس اللنبي أرض فلسطين بجيشه ودنس بلفور تاريخ فلسطين بوعده.

وإذ نكتب هذا اليوم، ونرى على شاشة التلفزيون جريمة اغتيال الطفل محمد جمال الدرة إذ يحتمي بوالده من الوحشية الصهيونية، ندرك أن حرب فلسطين لم تنته بعد، وأن الصهيونية لا تزال ماضية في مشروعها لتدمير ما تبقى من فلسطين بشراً وعمراناً وتاريخاً وجغرافية. لكن الانتفاضة الفلسطينية، التي وجدت صداها في الهبة العربية والإسلامية والعالمية في صورة لم يتصورها أحد، أثبتت أن هذا الشعب حي لن يموت، وأن حقه في وطنه لن يضيع، وأن عودته إلى "المكان المقدس" لا ريب فيها مهما طال الزمن، وبإزالة رجس المحتل يعود المكان مقدساً فعلاً.