لم تغيّر الصهيونية من مبادئها التي التزمت بها منذ أكثر من قرن وهي الاستيلاء على الأرض العربية وطرد سكانها منها، إن لم يكن بالغزو المباشر أو بالخنق الاقتصادي والأمني، فليكن عن طريق الخداع السياسي.

وموضوع "تبادل الأراضي" الذي يسوّقونه منذ تفاهم بيلين – أبو مازن ثم طابا تم في خطة البحر الميت بين بيلين وعبد ربه التي كرّموها باسم مبادرة جنيف، أو في بالونات الاختبار التي يؤكدون فيها إقامة "دولة" فلسطين على 100% من مساحة الضفة، ما هي إلا جزء من مخططات هذا الخداع السياسي.

أولاً: هناك مغالطات أصلية في قواعد هذه المشاريع. فهي تقوم على فرضية أن 78% من فلسطين المحتلة هو ملك شرعي لإسرائيل وأن 22% منها المحتل عام 1967 هي مناطق متنازع عليها، ويمكن الوصول إلى تسوية حولها بالمفاوضات.

فلسطين 1948 (أو إسرائيل الآن) محدودة بخط الهدنة المتفق عليه في اتفاقيات الهدنة عام 1949. وهذه الاتفاقيات تنص صراحة على أن هذا الخط لا يعني منح حقوق لأي طرف ولا منعها عنه، فهو مجرد خط يبين مكان القوات في ذلك التاريخ. ولذلك لا يمكن اعتباره حدوداً داخل فلسطين، إلا في حالة اتفاق أو معاهدة يوافق عليها الشعب الفلسطيني من خلال المجلس الوطني المنتخب انتخاباً سليماً، وهذا لن يحدث.

أما على حدود فلسطين الخارجية فقد اعتبرت مصر والأردن في معاهدتيهما مع إسرائيل أن حدودها مع فلسطين الانتدابية هي حدودها مع إسرائيل. لكن المعاهدة مع مصر استثنت قطاع غزة من ذلك واعتبرته خاضعاً للاتفاق النهائي مع الفلسطينيين. أما المعاهدة مع الأردن، فلم تكن واضحة في هذا الموضوع.

ومعني ذلك أن مصر والأردن تعتبران أرض فلسطين المجاورة لحدودها مع البلدين هي أرض إسرائيلية. وتتحفظ مصر على أرض فلسطين في قطاع غزة، ولا تتحفظ الأردن كثيراً على أرض فلسطين في الضفة.

وليس لإسرائيل دستور أو قانون يحدد حدودها. لكن قوانينها تسمى "كل أرض خاضعة لإسرائيل هي إسرائيلية". وقد حذفت إسرائيل خط الهدنة من خرائطها بعد 1967 وتشمل الأرض المظللة باسم إسرائيل في الخرائط، كل فلسطين بما فيها الضفة وغزة والجولان، وأحياناً تضاف ملاحظات تحذيرية في بعض المناطق المحتلة.

والوضع القانوني للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 في القانون الدولي واضح تماماً، فهي "أرض محتلة" وليست متنازعاً عليها. وهذا الوضع قد تم بيانه بما لا يدع مجالاً للشك في الرأي الاستشاري المشهور الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في 9 يوليه عام 2004.

إذن فمن ناحية القانون الدولي وأيضاً من ناحية الحقوق الفلسطينية ليس لإسرائيل الحق في التصرف في أراضي لا تملكها لا بموجب صكوك الملكية (وهي 93% من مساحة إسرائيل، أي أراضي اللاجئين) ولا في أراضي احتلتها عام 1967.

ولكن المجتمع الدولي الغربي اعترف لإسرائيل بحدود خط الهدنة كأمر واقع (de facto) وليس بحق قانوني (de jeure) وذلك يعني "السيادة" لإسرائيل على أراضي 48 وليس لملكيتها. ولا يزال المجتمع الدولي في الأمم المتحدة (باستثناء أمريكا بعد أوسلو) يعتبر الضفة وغزة "أراضي محتلة". وحتى استثناء أمريكا هذا فهو سياسي وليس قانوني.

أما السياسة الإسرائيلية الدائمة فهي تسعي إلى الاستحواذ على أكبر مساحة من الأرض مع أقل عدد من الأهالي العرب. ولو تضارب الهدفان، فإن التخلص من العرب هو أهم. ومسألة "القنبلة الديموغرافية" هي أهم مبدأ عنصري في عملية التنظيف العرقي التي تمارسها إسرائيل. ومع ذلك فلا تعارضه الدول الغربية وتعتبره مسألة سياسية قابلة للتفاوض. ولو خرج أهالي لندن بحملة عنصرية تدعو إلى طرد اليهود من Golders Green وهو حي في لندن غالبيته مهاجرون يهود من أوربا، إذا زاد عددهم عن نسبة معينة باعتبارهم قنبلة ديموغرافية، لقامت الدنيا ولم تقعد. أما عندما يطبق هذا المبدأ على أهالي البلاد (وهم أصحابها وليسوا مهاجرين) من قبل المحتلين الأجانب، فيعتبر هذا في الغرب تسويات سياسية مقبولة.

وقد أعلن نتنياهو عدة مرات أن الفلسطينيين في بلادهم داخل إسرائيل هم "قنبلة ديموغرافية". لكن الحامل الرئيسي لراية التنظيف العرقي الآن هو أفيجدور ليبرمان العنصري الروسي وزعيم المافيا ورئيس حزب "إسرائيل بيتنا".

والعقل المفكر له وواضع خطته للتنظيف العرقي هو البروفسور جدعون بيجر (Gideon Biger) أستاذ الجغرافيا والسكان في جامعة تل أبيب، وهو روسي أيضاً. وفي مقابلة له مع جريدة هآرتز في 16/12/2005 قال إنه المستشار السياسي لافيجدور ليبرمان، وأنه وضع خطة لتفريغ القرى الفلسطينية من سكانها (في داخل إسرائيل) وأنه يأخذ معلومات ويرسم خرائط بمساعدة الفلسطينيين دون علمهم بأهدافه. ويخطط لكي يكون تهجير السكان عن طريق "الترحيل الاختياري". وهذا معناه تحويل حياتهم إلى جهنم مع تقديم إغراءات بالسفر حتى يغادروا البلاد. والخيار الآخر هو "تبادل الأراضي"، بمعني ضم القرى الفلسطينية في إسرائيل دون أراضيها الزراعية بالكامل إلى ما قد يسمي بدولة فلسطينية، وضم المستوطنات الإسرائيلية الرئيسة قرب خط الهدنة إلى إسرائيل. والخيار الثالث الذي هدد به ليبرمان عدة مرات هو افتعال اضطرابات وطرد الفلسطينيين في الضفة وإسرائيل تحت غطاء حرب محدودة. وهو الأمر الذي أزعج الأردن كثيراً، وطلبت بموجبه إيضاحات، خصوصاً عندما قال قائد المنطقة الوسطي الإسرائيلي "إن الملك الحالي سيكون آخر الملوك الهاشميين".

ولا يزال البروفسور بيجر يعمل بجد في تنفيذ خطته بشكل يومي. وحيث أنه رئيس لجنة التخطيط في الجليل، فقد رفض طلباً لبلدة سخنين الفلسطينية في إسرائيل لإيقاف سلخ 8،400 دنم من أراضيها وتحويلها إلى مستوطنة يهودية مجاورة. وجاء في تقرير لإحدى المدونات الإسرائيلية اليسارية: "إن هذا الإجراء الشديد (بالاستيلاء على أراضي البلدة) أمر لم تجرؤ عليه حتى حكومة شارون التي كانت تفضل التفاوض لكن بيجر، الشريك السياسي لليبرمان وأحد مؤسسي حزبه، يري أن أفضل خيار للعرب أن يغادروا إسرائيل".

ويفخر بيجر بأنه كان أحد المفاوضين في معاهدة وادي عربة مع الأردن حول المياه،وأنه استطاع الوصول إلى اتفاق مع الوفد الأردني على إبقاء المزارع التي استولت عليها إسرائيل في الجانب الأردني، وإبقاء 12 بيراً في الأردن تضخ المياه إلى إسرائيل من الأراضي الأردنية على بعد 5 كيلومترات من الحدود حتى يومنا هذا.

ويحرص أولمرت على إبقاء ليبرمان في الحكومة بصفته نائب رئيس الوزراء ووزير الشئون الإستراتيجية وذلك بالموافقة على خطته في التنظيف العرقي، المعروفة باسم "تبادل الأراضي" لأسباب دعائية. وهو الذي لا يحتاج إلى إقناع بذلك.

ومن المعلوم أن الكتل الاستيطانية المطلوب ضمها إلى إسرائيل تجلس على الخزان المائي الغربي في الضفة، وهو أكبر 3 خزانات فيها، وتضخ إسرائيل منه 90% من مخزونه الذي يصل إلى 550 مليون متر مكعب من المياه سنوياً. وهذا أيضاً سبب التعرج في مسار حائط الفصل العنصري الذي يضم إلى إسرائيل الأراضي الخصبة والمياه والمستوطنات ويعزل عنها أهل هذه الأرض.

أما قصة التبادل التي كانت شائعة أيام حكومة شارون بإعطاء الفلسطينيين "حالوتسا"، فالخداع فيه بلغ أكبر حد يقابله جهل العرب بطبيعة هذه الصفقة. أولاً "حالوتسا" هو تحريف لاسم قرية "الخَلَصة" القريبة من كثبان الرمل السيناوية على الحدود، وهو أيضاً اسم مجرم الحرب، قائد الطيران، الذي قتل عشرات المدنيين من أطفال ونساء في غزة عند اغتياله الشهيد صلاح شحادة. والغريب أن الصحافة العربية تنقل اسم "حالوتسا" دون أن تعرف الاسم العربي لها (الخلصة).

وكثبان الرمل القريبة منها وتمتد داخل فلسطين وسيناء ما بين رفح والعوجة هي أراضي قاحلة لا يعيش فيها طير ولا وحش، ولا تمر بها دابة. وهذه الكلمات عينها هي المسطرة على الخرائط الإنجليزية عام 1914 التي رُسمت استعداداً لاحتلال اللنبي لفلسطين عام 1917.

وعلى شمال شرق الخلصة، يوجد أكبر مكب للنفايات السامّة في رامات هوفاف، والذي يسبب عشرات الإصابات بالسرطان والأمراض الجلدية لقبيلة العزازمة المقيمة هناك، والذي أنفجر به أحد المصانع أوائل هذا الشهر.

هذه هي أهداف "تبادل الأراضي": إكمال عملية التنظيف العرقي بموجب اتفاق سياسي له صفة الشرعية، طرد أصحاب الأراضي، الاستيلاء على أراضيهم الخصبة مقابل إعادة جزء صغير من أراض فلسطينية خصبة في الشمال، قاحلة في الجنوب، لا تملكها إسرائيل أصلا من ناحية قانونية. وهذا كله يتم بمباركة دولية، يضفي عليها صفة الشرعية في صفقة مشبوهة، بحيث يصعب على أهل هذه الأرض الشرعيين الطعن بها وبمن قاموا بها.