أهداف الصهيونية ثلاثة: الأول الاستيلاء على الأرض، والثاني طرد أهل البلاد إلى غير رجعة، والثالث طمس تاريخهم وهويتهم وأثار وجودهم. الهدفان الأول والثاني معروفان في القانون الدولي باسم "التنظيف العرقي" وهو جريمة حرب لا تسقط بالتقادم وتقع مسئوليتها على أي شخص شارك في هذه الجريمة من أصغر جندي إلى رئيس الدولة.

أما الهدف الثالث فهو غير معروف كثيراً أو معلن. وهو هدف تنفرد به الصهيونية، فلم يعرف في كثير من حالات التنظيف العرقي أو حتى الاستعمار الاستيطاني، أن اكترث المستعمرون كثيراً بطمس هوية الشعب المستعمر إلا بطريقة غير مباشرة مثل إهمال تعليم التاريخ الوطني. أما في الحالة الصهيونية، فقد كان هذا هدفاً بارزاً مخططاً له، وتم تنفيذه على كافة الأصعدة، مثل الخرائط والكتب المدرسية والصحافة والأفلام، والدعاية الواسعة في الغرب على مدي عدة عقود.

والسبب واضح. وهو محاولة الصهيونية تسويق فكرة " شعب بلا أرض إلى أرض بلا شعب". فإذا كانت فلسطين أرضاً بلا شعب، عدا بعض البدو الرحل الذين ليس لهم وطن ولا تاريخ، فإن استيطان الصهيونية فيها لا يمثل أي جريمة. أما إذا كانت فلسطين أرضاً مأهولة بشعب له حضارة وامتداد مستمر على مدى 5000 عام، فإن اقتلاعه وطمس تاريخه جريمة كبرى لا تغتفر.

وإذا أدركنا هذا، فإننا نجد أن أفعال الصهيونية سهلة التفسير. بعد 3 أسابيع من إعلان "حكومة إسرائيل المؤقتة" عام 1948، ولا زال الغزو الصهيوني في أوجه، وفي الوقت الذي طردت فيه القوات الصهيونية أكثر من نصف اللاجئين أثناء وجود الانتداب البريطاني، استدعت إسرائيل الصهيوني الخبير في ترحيل السكان في أوربا أثناء الحرب العالمية الثانية، المدعو الدكتور شختمان، وطلبت منه إعداد خطة لمنع عودة اللاجئين (بعد طرد الباقين من ديارهم في ذلك الوقت)، فوضع خطة مفصلة لا زالت هي القاعدة التي تسير عليها إسرائيل حتى يومنا هذا.

تتلخص الخطة في الآتي: الإعلان بأن اللاجئين خرجوا طوعاً أو بأوامر عربية وعلى الدول العربية مسئولية توطينهم في البلاد العربية أو خارجها في أبعد مكان عن إسرائيل. وليس لإسرائيل أي مسئولية عن خروجهم. ولا مجال لعودتهم الآن (1948) لان البيوت هدمت، والمزارع أحرقت، والحيوانات نفقت، والآبار سممت، والبلاد امتلأت بالمهاجرين اليهود الجدد. ولا مكان لهم. هذا عدا أنهم إذا عادوا سيكونون خطراً على أمن إسرائيل. وحيث أنهم عرب وليست هناك دولة إسمها فلسطين، فالحل المثالي هو أن يعيش هؤلاء العرب بين أهلهم في العراق وسوريا ولبنان وليبيا أو إن شاءوا في أمريكا اللاتينية. وإسرائيل مستعدة للمشاركة في التمويل والإدارة اللازمين لتوطينهم بعيداً عن إسرائيل.

لقد تجمد الزمن عند إسرائيل. وليس لديها خطة منذ عام 1948 حتى اليوم إلا الخلاص من أهل البلاد. وهذا هو صلب اتفاقية أوسلو وما تبعها إلى صباح اليوم الذي تقرأ فيه عنوان الجريدة.

لم يكتف بن جوريون بذلك، بل إنه في نفس الأسبوع الذي وقّعت فيه إسرائيل آخر اتفاقية هدنة (مع سوريا في 1949/7/20)، بعد احتلالها 78% من فلسطين وتهجير أهالي 675 مدينة وقرية، أمر بعقد لجنة من المؤرخين والمساحين وعلماء التوراة وغيرهم لطمس ما يقرب من 50،000 إسم فلسطيني / عربي / إسلامي / كنعاني، واستبدالها بأسماء عبرية. لقد كان يقلقه، بعد أن استولي على المكان وطرد أهله، أن يسمع باسم فلسطيني من هذه الآلاف التي تمثل أبجدية تاريخ الشعب الفلسطيني على أرضه. وليس من الغريب أن يجد هؤلاء الخبراء الصهاينة ما لا يزيد عن 5% من الأسماء هي أسماء توراتية نسبوها لأنفسهم، مع أن الاستنتاج الوحيد الممكن أنه حتى هذه كانت موجودة عند كتابة التوراة. أما باقي الأسماء التي اخترعوها فهي أسماء مترجمة عن العربية أو مفبركة.

ولسوء حظ بن جوريون، فإن "أطلس فلسطين 1948" الذي صدر بعد أكثر من نصف قرن على هذا الطمس، أعاد إلى الحياة هذه العشرات من آلاف الأسماء الفلسطينية.

في عام 1948 وبعدها، تمكن بن جوريون من طمس التاريخ والجغرافيا الفلسطينية على خرائطه. على أن هذه الفكرة لها جذور بعيدة.

كانت الأفكار السائدة في أوربا في القرن التاسع عشر عن المشرق وبلاد الإسلام عموماً لا تختلف كثيراً عن الأفكار التي سادت أيام الحروب الصليبية قبل ذلك بما لا يقل عن سبعة قرون. كان العنصر الظاهر في تاريخ فلسطين هو التواجد اليهودي والحكم الروماني والبيزنطي والحملة الصليبية. أما العصر العربي والإسلامي فكان مطموساً كأنما كانت فلسطين خالية تنتظر من يملأ فراغها.

ورغم كراهية أوربا لليهود، فإن اليهود استطاعوا أن ينسجوا فكراً موحداً بينهم وبين مواطنيهم الأوربيين، أثناء ازدهار العصر الاستعماري لآسيا وأفريقيا في القرن التاسع عشر. فبينما اقتطعت أوربا أجزاء من آسيا وأفريقيا (بالإضافة إلى كل أمريكا الشمالية واستراليا) لتكوّن عليها مستعمرات تملكها تحت أعلامها الخاصة، تحالف اليهود الأوربيون مع مواطنيهم على استعمار فلسطين خدمة للمصالح الأوربية بإنشاء قاعدة يهودية فيها، وهل هناك خدم أفضل لهذا الاستعمار من اليهود الذين تربطهم بفلسطين روابط دينية؟

أنشئ في لندن عام 1865 "صندوق اكتشاف فلسطين" برئاسة الملكة فكتوريا وعضوية قساوسة وعلماء التوراة والإنجيل وشخصيات بارزة، وغرضها المعلن استكشاف فلسطين لتوثيق التاريخ المقدس.

وقام الصندوق بإرسال بعثة مساحية في السبعينات من القرن التاسع عشر وبقيت تعمل لأربع سنوات في فلسطين ومثلها في لندن وأصدرت خرائط مفصلة ومجلدات عن كل مظاهر الحياة في فلسطين.

أقول كل مظاهر "الحياة" مجازاً، فالواقع أنها اهتمت فقط بالأموات والأشياء الميتة مثل الآثار والأماكن المذكورة في التوراة لإثبات هذا التاريخ. ولم تحفل البعثة بأهل البلاد إلا بأقل القليل، فهم الخدم والطباخون والحمالون للبعثة.

ومن يطلع على حوليات "صندوق اكتشاف فلسطين"، ابتداء من عام 1875 فصاعداً يجد عناوين غريبة مثل "استعادة القدس" أو "استعمار فلسطين" أو مقالات كتبها يهود أو مأخوذة من جرائد يهودية. ولا يُذكر فيها أهل البلاد، كأنهم أشباح لا وجود لهم. حتى المسيحيين من الفلسطينيين يُذكرون بازدراء كونهم "متخلفين" بتأثير وجودهم بين المسلمين.

هذا الفكر المتعصب بقي العامل الغالب بالطبع، خصوصاً عندما احتل الإنجليز مصر عام 1882، وزادوا من خرائط البعثة المساحية لإكمال ما كان ناقصاً في جنوب فلسطين وسيناء. وأصبحت هذه الخرائط والمعلومات هي المصدر الأول للجنرال اللنبي الذي أحتل فلسطين 1917. بل إن احتلال فلسطين، بعد 1400 سنة من الحكم العربي الإسلامي، قد تم على يد ما سمى "بالحملة العسكرية المصرية" التي خرجت من مصر قاعدة بريطانيا في ذلك الوقت.

نسوق كل هذه الأمثلة لنبين مدى الطمس المتعمد، طويل الأمد، بناء على فكرة وأسلوب عمل مخطط، لكافة مشاهد الحياة الفلسطينية على أرض فلسطين.

وبالمقابل، لم توجد لدى الفلسطينيين خطة مماثلة أو حتى إدراك عميق لضرورتها. ولا يمكن أن نلوم الفلسطينيين على ذلك في ذلك العصر. فهم كانوا، مثل أهل سوريا ومصر والعراق، يعيشون على أرضهم كما عاشوا عدة قرون، لم يشغلهم أن مر ببلادهم رحالة وقساوسة ومساحون وجواسيس، يسجلون كل أثر فيها ويخططون للاستيلاء عليها.

وعندما استلم الانتداب البريطاني إدارة فلسطين، كان من أهدافه الأولي كيفية تحويل فلسطين إلى وطن قومي لليهود يتبعه قيام دولة يهودية، وهو الأمر الذي لم يترك الصهاينة لبريطانيا فرصة واحدة إلا وذكرّوهم به.

ولما كان من بين أهداف الانتداب مساعدة سكان البلاد على إنشاء مؤسسات وطنية تمهيداً لاستقلالهم، أنشأت حكومة الانتداب دوائر للصحة والتعليم والأشغال والزراعة وغيرها، وسمحت للوكالة اليهودية، وهي بمثابة حكومة ظل يهودية، بإنشاء دوائر مماثلة، ولكن مستقلة لليهود فقط.

هذا السجل الوطني الذي خلّفه الانتداب، على بساطته، سطت عليه القوات الصهيونية في ربيع وصيف 1948، وسلبت كل ممتلكاته. استولت حكومة إسرائيل (المؤقتة) على جميع سجلات الصحة (المواليد والوفيات) والتعليم (الامتحانات والشهادات) وسجلات الأراضي بما فيها الطابو، والخرائط المساحية وآلات طبعها، وملفات البلديات وملفات الهيئات الفلسطينية المختلفة بما فيها السياسية والثقافية والرياضية، وكذلك على أوراق الشخصيات الهامة، ولم تنس الاستيلاء على مكتبات شخصية فريدة مثل مكتبة خليل السكاكيني ونقولا زيادة وحسن الكرمي وغيرهم. لقد ضاع منا ما هو أقرب ما يكون إلى "الأرشيف الوطني".

هذا عدا الاستيلاء على الأملاك الخاصة والأملاك العامة مثل: 31 مطار و37 معسكر جيش و22،000 كم طرق (منها 3،000 كم درجة أولي) و624 كم سكة حديد و2،200 مبني حكومي (مدرسة ومستشفي وشرطة وزراعة وصناعة) و3،650 مصدر مياه (آبار وأحواض ونبع) و2،000 مكان مقدس. (للتفاصيل أنظر "أطلس فلسطين 1948").

ماذا بقي لنا من كل هذا التراث؟ بقي لنا الناس، أهل هذه البلاد، الذين يحملون النكبة في ذاكرتهم، ويحملون الوطن في قلوبهم، ويعقدون العزم في عقولهم وبأيديهم على استرجاعه. إذن فالتاريخ الشفوي هو الملجأ الوحيد لنستعيد فيه الوطن، ولننقله إلي الأجيال القادمة.

هذا المصدر الوحيد لتاريخنا وتراثنا هو مصدر ينضب كل يوم. فعدد الذين ولدوا في فلسطين عام 1940 أو قبل ذلك لا يتجاوز 3% حسب سجلات وكالة الغوث. ولو وزّع هؤلاء على 675 مدينة وقرية هُجّر أهلها عام النكبة لبقى لنا حوالي 200 شخص لكل قرية، لو كان على قيد الحياة. والنساء أكثر من نصف هؤلاء لأنهن أطول عمراً.

في ميدان التاريخ الشفوي، صدر حوالي 60 – 80 كتاباً صغيراً، كلُ عن قرية أو مدينة، توثق تاريخ تلك البلدة وسكانها وعاداتها وعائلاتها. ولأن هذا عمل المحبين لبلادهم، وليس عمل المحترفين في الغالب، اختلفت القيمة الأكاديمية لهذا الكتب، ولكنها كلها تعبير صادق عن ارتباط الناس ببلادهم.

ومن حيث التوزيع الجغرافي، فقد فاز الجليل بنصيب الأسد من هذه الكتب التذكارية تلاه المنطقة الوسطي من فلسطين (من القدس إلى يافا). والسبب في كثرة كتب الجليل فيما يبدو أن معظم اللاجئين استفادوا من الحركة الثقافية في دمشق وبيروت، وأصدروا أعمالاَ كثيرة وثائقية وأدبية.

أما القطاع الجنوبي من فلسطين الذي يشمل أقضية غزة وبئر السبع والخليل وجزء من الرملة، فكان أقلها تسجيلاً للتاريخ الشفوي، وأقلها عدداً في كتيبات القرى. هذا رغم أن الجنوب قد تم طرد كافة سكانه بالكامل، بينما بقي قسم كبير من أهل الجليل في ديارهم.

أما من حيث المواضيع، فهناك، بجانب المعاناة أثناء النكبة التي تصدرت مواضيع التاريخ الشفوي، غياب شبه كامل لمواضيع جديرة بالبحث مثل تأثير الغارات الجوية على الأهالي، وحجز الآلاف للعمل بالسخرة في معسكرات الاعتقال، والاغتصاب، والعمالة للصهاينة.

من أجل تنسيق الجهود المتناثرة في أعمال التاريخ الشفوي، عقدنا مؤتمراً للباحثين في التاريخ الشفوي في عمان في مايو 2005 حضره حوالي 40 باحثاُ من كافة مناطق فلسطين والدول المجاورة وانبثقت عنه "شبكة التاريخ الشفوي الفلسطيني" التي لا تزال في مراحلها الأولي بسبب قلة الموارد المالية. لكن السنوات الأخيرة أثبتت أن العمل التطوعي المخلص يستطيع التغلب على هذه المصاعب.

ورغم الصعوبات، استمرت المؤتمرات. وبجانب الورشات واللقاءات ودورات التدريب التي أقيمت وتقام بانتظام، فقد عقد في الجامعة الإسلامية مؤتمر للتاريخ الشفوي في مايو 2006. وعقد أيضاً مؤتمر "دور التاريخ الشفوي في الحفاظ على الهوية الفلسطينية" في يونيه 2007 بترتيب من جامعة القدس المفتوحة، منطقة رفح التعليمية. وأوراقه ستصدر في كتاب وموضوعه هو الحافز لكتابة هذه المقدمة.

ويبين دليل المؤتمر أنه قدمت فيه حوالي 50 ورقة غطت مواضيع متعددة: مثل السير الذاتية، الهوية الوطنية، دور المرأة كمصدر للتاريخ الموثق، إلهام الأدب، تسجيل الأدب الشعبي (الفولكلور)، وقضايا ذات طابع محلي أو حوادث معينة.

هذه التغطية الواسعة تجلب الانتباه لاتساع مساحة المواضيع المطلوب بحثها. ولهذا فهي بالضرورة اختلفت في عمق وكفاءة معالجتها، باختلاف الباحثين الذين جاءوا من معظم مناطق فلسطين والشتات، واختلاف قدراتهم وإنجازاتهم، واختلاف أهدافهم كذلك.

فالتاريخ الشفوي له هدفان: الأول توثيقي والمقصود به تسجيل وقائع تاريخية محددة في المكان والزمان والأسماء إن أمكن، وذلك بديل عن فقدان الأرشيف الوطني أو تكملة له. وهو المادة التي تكتب بها كتب التاريخ وتقدم لمحاكمات مجري الحرب.

والثاني إنساني (درامي) يوثق المشاعر الإنسانية والآلام والمعاناة أثناء المرور بتجربة فريدة مثل النكبة. وهو المادة التي تصاغ منها الروايات والشعر والفن المصّور.

ولذلك فإن من الأهمية بمكان، عدم خلط هذين الهدفين، مما قد ينجم عنه التقليل من شأن أحدهما أو كليهما.

ولا شك أن الكتاب، مادة أوراق المؤتمر، سيكون مصدراًَ ثميناً للمعلومات، يستفيد منه المتخصص والقارئ المهتم، كما أنه سيكون حافزاً لمؤتمر جديد يبني على ما سبق.

انتهي المؤتمر بتوصيات طموحة بلغت سبعة عشر، وهي علامة على سعة الاهتمام أكثر منها برنامجاً يمكن تحقيقه على المدى القريب. ولو أمكن البدء في تطبيق البرنامج لاحتاج إلى عشرات الباحثين وأموال طائلة ومدة طويلة. وإذا توفرت الإمكانيات سيمكن عندئذ تقليص التوصيات إلى عدد أقل ولكنه فعال وقابل للتطبيق ويمكن الاستفادة من نتائجه.

وفي الختام أقول: لقد سرق الصهاينة وطننا وهجّرونا منه. سرقوا جغرافيتنا، وطمسوا تاريخنا ولكننا بقينا نحمله في صدورنا. وسيأتي اليوم الذي يجتمع فيه شمل تاريخنا وجغرافيتنا على أرض الوطن. لا شك عندي في ذلك.

وما ضاع حق وراءه مطالب.