لا شك أن السيد محمود عباس، إن عاجلا أو آجلا والأفضل أن يكون عاجلا، سيذهب إلى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي موقعا باسم دولة فلسطين على ميثاق روما لعام 1998 ومصادقا عليه أيضا من قبل الهيئة التمثيلية الفلسطينية المناسبة. وإن لم يقم بهذا الإجراء في أقرب فرصة ممكنة فإنه سيعرض نفسه ليكون متهما في نفس المحكمة. والوقائع بسيطة وواضحة وموثقة. الشعب الفلسطيني بكامل أطيافه ساخط جدا على تلكؤ أبو مازن في التوقيع على ميثاق روما ومازالت دماء ألفي شهيد بينهم أطفال ونساء وعجزة في مجزرة غزة الأخيرة لم تجف بعد، بالإضافة إلى 10 آلاف مصاب من جراء جرائم الحرب الإسرائيلية خلال الأسابيع الأربعة الماضية.

هذه الجرائم وصلت إلى حد البشاعة أن قامت جماهير غاضبة، ليست فلسطينية أو حتى عربية، من بريطانيا وجنوب أفريقيا إلى أمريكا اللاتينية، محتجة على جرائم إسرائيل. هذا التيار العالمي الساخط على جرائم الحرب الإسرائيلية، المؤيد للحقوق الفلسطينية في الحرية من الإحتلال والحصار، والذي قدر بأنه في مجموعه أكبر حشد في التاريخ لمساندة أي قضية، دلالة على انقلاب إيجابي في ميزان الرأي العام العالمي.

إذا لم يكن هذا كافيا لإقناع أبو مازن بالذهاب إلى لاهاي وشكه في الجدوى القانونية من ذلك فما عليه إلا أن يستمع إلى مناشدة أكثر من 20 مؤسسة قانونية من بينها هيومن رايتس ووتش ومنظمة العدل الدولية (أمنستي) التي خاطبته في بيان معلن بتاريخ 8 مايو 2014، تحثه على التوقيع على ميثاق روما باسم دولة فلسطين، بل إن النائب العام الحالي في محكمة الجنايات الدولية، السيدة فاتو بن سودا قالت:" الكرة الآن في ملعب فلسطين. وما عليهم إلا إرسال صفحة واحدة لي بالموافقة على ميثاق روما".

وإذا كان هذا كله لا يرضي أبو مازن فإن عليه أن يتذكر أن شرعيته مبنية على حماية الحقوق الفلسطينية والدفاع عنها بكل إخلاص وكفاءة. وهنا قد تكون شرعية أبو مازن موضع سؤال؛ فهو قد انتخب عام 2006 من قبل 30% من الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة. وانتهت ولايته بعد 4 سنوات من هذا التاريخ. أما 70% من الشعب الفلسطيني في الشتات فلم ينتخبه على الإطلاق. وعليه فإذا كانت شرعية أبو مازن مفترضة، فإن عليه أن يؤكدها بإثبات جهده المخلص لحماية الشعب الفلسطيني. وعليه أن يتذكر أن دماء ألفي شهيد ستظل في رقبته إلى الأبد إذا لم يذهب إلى لاهاي أو قصر بشكل مخل في ذلك.

أبو مازن له سجل طويل يستوجب محاسبته على يد الشعب الفلسطيني، أفرادا وجماعات.

لقد حاول تعطيل تقرير غولدستون، وهذا حسب القانون الدولي يعتبر مشاركة في مساعدة مجرمي الحرب الإسرائيليين على الإفلات من العدالة. وهذا النكوص ليس من باب الفرض إذ يبدو أن هنالك دلائل على ذلك، بل إن يوفال ديسكين، رئيس شين بيت الإسرائيلي، أبلغ أبو مازن في يناير 2010 أنه في حال عدم تعطيل تقرير غولدستون فإنه سيسحب كل الإمتيازات المالية بما فيها تراخيص شركات خاصة ونزع الإمتيازات المخصصة لنخبة رام الله. وعندما هبت عاصفة من الإحتجاج تراجع أبو مازن عن تعطيل تقرير غولدستون.

وموضوع الخضوع لإملاءات أمريكا وإسرائيل قد كشف بشكل أوسع في تقرير حديث للكونغرس. لقد جاء في تقرير بحثي للكونغرس بتاريخ 3 يوليو 2014 بقلم الكاتب جيم زنوتي، أي قبيل احتدام العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، يذكر فيه أن مساعدات أمريكا للسلطة مشروطة بفك المصالحة والقضاء على المقاومة وعدم تجريم إسرائيل في المحافل الدولية. وعند التدقيق في هذه المساعدات التي تصل إلى 440 مليون دولار من أمريكا وحدها يذكر التقرير أن نصيب المشروعات التنموية هي 15 مليون دولار فقط. أما الميزانية العامة للسلطة عام 2013 فتبلغ 3.5 مليار دولار منها 55% خصصت لدفع رواتب 160 ألف موظف، ولكن حوالي نصف هؤلاء أي 70 ألف موظف هم جنود ما يسمي بالقوات الأمنية التي تنسق مع إسرائيل. من هذا نستخلص أن المعونات الغربية للسلطة مقابل التخلي عن الحقوق الوطنية ثمنه أساسا دفع رواتب الموظفين لكي يبقوا عبيدا تحت الإحتلال، أو بمعنى آخر فإن البطن لديهم مفضل عن الوطن. والأنكى من ذلك أن مهمة القوات الأمنية هي في الواقع خدمة أمن إسرائيل بالقبض على الوطنيين وتسريب أسمائهم لإسرائيل وتدمير أي محاولة للمقاومة والقبض على ناشطي المقاطعة ونشر ثقافة الإستسلام. والثمن هو الإبقاء على الإمتيازات المالية لنخبة رام الله وأعوانهم.

أي أن هذه النخبة الضئيلة في العدد والمقام تسيطر على مقدرات 12 مليون فلسطيني بسبب الدعم المالي والسياسي الأوروبي الأمريكي.

وهذا بالطبع لن يقبله الشعب الفلسطيني. ولا بد أنه سيثور بالفعل، إن لم يكن بالرأي، لكي ينقذ فلسطين من هوة الإنحدار التي وصلنا إليها. وقد عبرت عن هذا الموقف المؤلم 100 شخصية فلسطينية وأكاديمية في المهجر حيث لا خوف من قطع الأرزاق ولوي الأعناق في بيان سيصدر هذا الأسبوع. وفي هذه الحال فإن المساءلة القانونية لأبو مازن ستكون شاملة ولن تتوقف عند نكوصه عن توقيعه ميثاق روما، بل تصل أيضا إلى موقفه من تقرير غولدستون، ومن تأخره في تقديم طلب إلى الأمم المتحدة للإعتراف بفلسطين كدولة غير مراقب، وهو تأخير لا يغتفر لأن هذا الإعتراف قد تم عام 1974 في الأمم المتحدة، وتم بناءا على قرار عصبة الأمم عام 1920 باستقلال فلسطين.

هذه المساءلة القانونية ستشمل التعاون مع إسرائيل الذي هو جريمة وطنية رغم تسميته بالتنسيق الأمني. كما ستشمل هذه المساءلة جرائم الفساد ونهب المال العام والمحسوبية والكسب غير المشروع.

وتمتد هذه المساءلة إلى أبعد من ذلك. فإن اتفاق أوسلو أكثر خطرا على الحقوق الفلسطينية من وعد بلفور. وعد بلفور كان اتفاقا سريا بين طرفين استعماريين دون علم صاحب الحق الفلسطيني. أما اتفاق أوسلو فهو اتفاق بين القوة المحتلة والشعب الواقع تحت الإحتلال، وهو عقد إذعان إذ يعطي المحتل الحق في الأرض الفلسطينية ويجعله شريكا فيها، مما أدى إلى سيطرته الكاملة على 60% من أراضي الضفة وسيطرته شبه الكاملة على 40%. وجريمة هذا الإتفاق أنه لم يذكر مرة واحدة في نصوصه كلمة "حقوق الشعب الفلسطيني" أو قرارات الأمم المتحدة أو القانون الدولي كمرجع معتمد. وبينما كشف الوفد الفلسطيني الموحد في القاهرة عن عدم جدوى المفاوضة مع إسرائيل في أسبوعين فقط، احتاج أبو مازن إلى 20 سنة للوصول إلى هذه النتيجة، سيطرت إسرائيل خلالها على الضفة بشكل كامل.

إن بروتوكول باريس الإقتصادي الذي سيطرت بموجبه إسرائيل على 98% من واردات الضفة وقيدت نموه الإقتصادي وخلقت منه تابعا له، هو نسخة طبق الأصل من بروتوكول باريس لعام 1941 الذي تم الإتفاق عليه بين حكومة ألمانيا النازية التي كانت تحتل فرنسا وحكومة فيشي الفرنسية العميلة للإحتلال النازي.

وقائمة المسائلة طويلة، ولكن الشعب الفلسطيني لن يقبل بغير انتخاب قيادة فلسطينية جديدة عن طريق مجلس وطني جديد منتخب. وهو المجلس الذي يتم تعطيل انتخابه منذ اتفاق القاهرة في مارس 2005. وعليه فإن واجب أبو مازن الوطني، والذي تتوقف عليه شرعيته في تمثيل الشعب الفلسطيني، يحتم عليه أن يوقع على ميثاق روما ويصدق عليه في أسرع وقت ممكن، خصوصا وأن الإعتذار بعدم موافقة فصائل المقاومة قد زالت جميعا، وإن لم يفعل فإن مسؤوليته عن دماء الشهداء والجرحى ستجلبه إلى محكمة الجنايات الدولية، ولكن بصفته متهما هذه المرة. سلمان أبو ستة