"ماذا عملتم حتى الآن؟ أريد العودة إلى اللد"

جاءنى صوته عبر الهاتف مملوءاً حماسة وحيوية رغم المعوقات الصحية. كان يسأل عن مؤتمرات حق العودة التى عقدناها في بلاد عديدة، الأجنبية منها أكثر من العربية. كان يسأل ويستفسر وينصح ويحث، في كل مرة يكلمنى فيها أو أكلمه، كما لو كانت أول مرة.

وعندما كنت أزوره في بيته، كنت أسمع هذا الصوت المتدفق بالحيوية رغم صعوبة النطق أحيانا قليلة، ولكنى أيضاَ كنت أرى لمعة العينين تسطع من وجهه الثمانينى، وهو يردد نفس الكلمات.

"فلسطين عندى هى العودة إلى اللد".

هكذا كان يلخص قضية فلسطين كلها، عن حق وحكمة. فرغم مؤامرات الاستعمار والاستيطان وغزواته العسكرية، وتضليله الإعلامى، ومكره السياسى، تبقى قضية فلسطين مجسدة في شعب طُرد من دياره وأرضه التى سلبت وتاريخه الذى طمس. ولكن شعبها يرفض حتمية هذا المصير ويصر على العودة إلى دياره. ولم تُنقِص من عزيمة هذا الشعب مرور 9 عقود في أطول حرب على شعب في التاريخ.

كان يقلب معى صفحات "أطلس فلسطين 1948" ويرى المدن والقرى والوديان والأنهار والسهول والينابيع مفصلة في كل كيلو متر، كأنما كانت أصابعه قدميه تسيران على أرض الوطن. ويقول لى بلهجة فلسطينية محببة "ينصر دينك".

وكان ينظر إلى صفحة اللد، ويقول هذا المكان عرفته، وهذا وهذا. ويسأل لماذا لم تكتب إسم هذا المكان، وأعده بأن يظهر في الطبعة القادمة.

لم يمر على فلسطين أى حدث هائل مزلزل، مخلخل، مدمر للبلاد، مبيد لأهلها في تاريخها الطويل الممتد على مدى خمسة آلاف عام، مثل نكبة 1948.

الصليبيون جاءوا كقوة محاربة قتلت ودمرت، ولكن أهل فلسطين بقوا فيها. عندما جاء الإسلام وتزاوج أهل الجزيرة العربية مع جيرانهم أهل فلسطين، لم يطرد أحد من بيته ولم يبد أهل قرية أو مدينة.

وعندما جاءت رسالة السيد المسيح أعتنقها معظم أهل البلاد وهم في ديارهم وقراهم. وعندما جاءت بعض القبائل العابرة من شرق الأردن التى تعرف بالعبرية، واستوطنت ثم ذابت أو خرجت مثلما جاءت، ضاع ذكرها دون حدوث خلخلة أو تغيير جوهري في البلاد.

ولعل من العلامات المميزة في فلسطين التى تؤكد هذا التاريخ، أن الفلسطينيين، مهما كانت لغتهم في عصر من العصور، ومهما كانت عقيدتهم، ومهما كانت طبيعته حضارتهم، التجأوا إلى نفس الأماكن المقدسة التى احترموها وأجلّوها على مدى العصور، طلباً للعناية الألهية. وهذه الأماكن هى التى نسميها "الخضر" في بلادنا، هى نفس الأماكن التى كانت تزورها المرأة التى تسعى إلى الحمل، والرجل الذى يريد فك كربته والطفل الذى يريدون له طول العمر، حتى لو كانوا كنعانين في بيت دجن، أو مسيحيين في الناصرة، أو مسلمين في الرملة.

النكبة حاضرة في تاريخننا ومستقبلنا، في عقولنا وأفئدتنا، في تراثنا الشعبى وفي خططنا السياسية. وهذا ليس بالعجيب، لان حجم النكبة هائل بكل المقاييس. ولن تقلل الأرقام الجافة من هول هذه الكارثة.

لقد هُجّر أهل 675 مدينة وقرية وضيعة من ديارهم، وهم يمثلون اليوم ثلثى الشعب الفلسطينى، أو ثلاثة أرباعه إذا أضفنا النازحين عام 1967. إسرائيل أقيمت على 78% من أرض فلسطين، لكن 93% من هذه الأرض التى تسمى إسرائيل هى أرض فلسطينية. هل هناك مثال أقوى على جريمة السلب من أن دولة تقام على أرض لا تملك 93% منها، وحتى السبعة في المائة الباقية استملكت بتواطؤ بريطانى؟

المآسى في فلسطين منذ النكبة إلى اليوم كثيرة. إسرائيل حفرت وجودها بالدم البرئ المراق باقتراف 72 مجزرة. ولا تزال دماء الابرياء الطاهرة تراق كل يوم في الضفة وغزة، وقبلها في لبنان والجولان وسيناء.

من الصعب أن تختزل كل هذه المآسى في واحدة نموذجية، فالبشاعة على تكرارها تأخذ صوراً عديدة. لكننا نستطيع أن نسلط الضوء على جريمة طرد، وجريمة ذبح، وجريمة احتلال لواحدة من أكبر المدن الفلسطينية وهى اللد.

المفارقة التى تفضح الصهيونية التى تدعى أنها قبلت بالتقسيم والعرب لم يقبلوا به، وأن هذا هو سبب حرب 1948، هى أن اللد والرملة مدينتان واقعتان في نطاق الدولة العربية. ولو كان هذا هو سبب حرب 1948 لما هاجمتهم إسرائيل بكل وحشية. ورغم أن القصة معروفة، إلا أنه في إعتقادى لم يأت بعد المؤرخ الذى يوفيها حقها.

في يوليه 1948 احتشد في اللد والرملة ستون ألفاً من أهالى المدينتين ومن قرى يافا المجاورة التى طرد أهلها منذ نهاية إبريل. وفوجئ الأهالى بالقوات الإسرائيلية تدخل اللد من الشمال والشرق بعد أن اختفت قوات "الجيش العربى" الأردنى بقيادة جلوب باشا.

قتلت القوات الإسرائيلية كل من وجدته في الشارع، ولم ترحم من لجأوا إلى جامع دهمش، فقتلتهم جميعاً في بيت العبادة، وبقيت جثثهم إلى أن أجبروا القلة من الأهالى الباقية بعد أيام من الجريمة على نقلهم ودفنهم.

أما باقى الأهالى، فقد أصدر بن جوريون بإشارة من يده إلى قائد قواته إسحاق رابين بطرد الأهالى بالكامل نحو الشرق.

وهنا بدأ مسير "قافلة الموت". آلاف من النساء والأطفال والشيوخ ساروا في شهر رمضان تحت أشعة الشمس الحارقة في قافلة طويلة تتعرج بين الصخور والأشجار، يسقط على جانبها متاعهم القليل الذى لا يقدرون على حمله، ثم يسقط شيوخهم من الإعياء، ثم أطفالهم. والجنود الإسرائيليون، الذين سرقوا مالهم وقطعوا أصابع النساء وجرحوا رقابهن لانتزاع ذهبهن، يطلقون النار على من يتوقف أو حتى يتأخر في الحراك.

وعندما وصل الجمع إلى حنفية ماء، وأندفع الناس نحوها لشربة ماء، أطلقوا عليهم الرصاص وقتلوهم. وعندما رأى أحدهم بئراً بعد مسيرة عدة كيلو مترات، اندفع نحوه ليشرب فوقع فيه، أسرع الآخرون لإنقاذه، وعندما مددوه على الأرض، امتصوا ما علق بملابسه من الماء.

هذا مشاهد إنسانية تحرك القلب الحجرى، ولو كانت عندنا آلة الإعلام الغربية، لآخرجت عن هذه المشاهد أفلاماً وأعمالاً فنية تصنع ذاكرة العالم كله لأجيال.

لكن ذاكرة الانسان الفلسطينى لا تموت. لقد خلقت هذه التجربة عدة شخصيات فلسطينية لا تزال آثارها بارزة في التاريخ الفلسطينى.

لقد خلقت من إسماعيل شموط فناناً فلسطينياً خلّد بلوحاته هذه المسيرة التى رآها بعينيه.

وخلقت من عبقرية رجائى بصيلة، الأكاديمى البارز، وهو الشاب الضرير، القصة نفسها في عمله الأدبى الرائع كما رآها ببصيرته وبلمسه وشمه.

وخلقت هذه المسيرة بطل المقاومة المسلحة، المقاتل العنيد والعسكرى البارز، والقائد العازف عن الشهرة والإعلام، خليل الوزير (أبو جهاد).

وخلقت هذه المسيرة نبى الثورة جورج حبش الذى وهب كل يوم من حياته منذ عام 1948 إلى هذا الوطن الذى يراه في عنوان اللد، وإلى أهله وبنى وطنه الذين ساروا في "قافلة الموت" ليعيدهم إلى ديارهم.

كتب الكثيرون وسيكتبون عن جورج حبش. وهم مؤهلون لذلك لأنهم عاصروه وعملوا معه في مسيرة القوميين العرب وكتائب العودة والجبهة الشعبية وإبراز إسم فلسطين وشعبها في كل محافل العالم.

لكنى عرفته شخصياً في السنوات الأخيرة فقط، خصوصاً بعد كارثة أوسلو. لآنه رأى في حركة "حق العودة" الأمل الجديد في أن شعلة العودة إلى اللد وسائر مدن فلسطين وقراها وضيعها لا تزال مضيئة، وأن حملة هذا الشعلة أجيال جديدة من ابناء هؤلاء اللاجئين الذين ساروا في "قافلة الموت" من اللد والرملة.

لقد رأى إكمال مسيرته وأمله في العودة، ولو بعد حين، ولو لإثواء رفاته في اللد، ماثلة أمام عينيه في الجيل الثالث وحتى الرابع من اللاجئين، الذين ولدوا في مختلف بلاد العالم، يتكلمون لغات مختلفة ويحملون جوازات مختلفة. وهم يواجهون هذه المهمة بحماس لا يقل عن آبائهم، وبكفاءة وعلم وثقة بالنفس لم تتوفر لآبائهم وأجدادهم.

كان يقول لى دائما: "اعتبرنى جندياً في المسيرة". لم يكن جندياً ابداً حتى في شيخوخته، بل كان قائداً بكل ما يستحق وصف هذه الكلمة. والدليل على ذلك ليس فقط في مسيرته القيادية على مدى ستين عاماً من النضال كقائد بارز متقدم للتضحية بنفسه قبل غيره، بل أيضاً كمثله الذى ضربه في حياته والذى لم يباريه أحد في مساره النضالى: أن يتخلى عن القيادة طوعاً ويظل مقاتلاً كجندى. ولذلك فإنه سيبقى سيرة عطرة في تاريخ وطنه وعبرة للقادة في مسيرة النضال ونبراساً للأجيال القادمة.

سلمان أبو سته
المنسق العام لمؤتمر حق العودة