توقعاً لمحادثات وشيكة بين سورية وإسرائيل عن الانسحاب من هضبة الجولان، يكثر الحديث عن الخط الذي ستنسحب إليه القوات الإسرائيلية: هل هو خط 4 حزيران (يونيو) 1967 أي عشية النكسة، أم هو خط الحدود الدولية بين فلسطين وسورية عام 1923، والفارق بين الخطين هو مساحة الأرض الفلسطينية، على صغرها، التي بقيت تحت سيطرة القوات السورية حين دخلت فلسطين عام 1948، إذ لم تبق أرض فلسطينية، بعد دخول القوات العربية لإنقاذ فلسطين، غير هذه القطعة الصغيرة، وبقيت الضفة الغربية تحت سيطرة القوات العراقية والأردنية، وقطاع غزة تحت سيطرة القوات المصرية.

ولا يعرف كثير من الناس تفاصيل هذه المشكلة ولا أهميتها السياسية والمائية. وسنزيد الأمر تعقيداً بالقول أن الخلاف سيكون على ثلاثة خطوط تفصل بين سورية وفلسطين وإسرائيل، وليس خطين كما هو شائع.

الخط الأول: الحدود الدولية عام 1923:

في ذلك العام، كانت فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وسورية تحت الانتداب الفرنسي، لذلك كان التقسيم بين سورية وفلسطين هو تقسيم للمصالح الاستعمارية، ولم يكن لحقوق أصحاب الأرض أي دور في ذلك، إلا الذي رآه الاستعمار كافياً لمنع القلاقل والاضطرابات وفي 3 شباط (فبراير) 1922، تم الاتفاق بين البريطاني نيو كمب والفرنسي بوليه بالتوقيع على خريطة الحدود بعد مفاوضات مضنية. كانت مهمة الضابط البريطاني في سلاح الهندسة أن يحقق للصهاينة أكبر مكاسب ممكنة من مصادر المياه تنفيذاً للخريطة التي قدمها وايزمان إلى مؤتمر السلام عام 1919، وكان ضابط الاستخبارات البريطاني ماينر تسهاجن زميل لورنس العرب، شديد التعصب للصهيونية، وله الأثر الأكبر في توسيع رقعة فلسطين لتشمل الموارد المائية لنهري الأردن واليرموك، والمطلع على الخريطة اليوم يجد أن خط الحدود يتعرج بشكل غير طبيعي لكي يضم منابع الأنهار والوديان.

أما فرنسا، فكان هدفها توسيع رقعة لبنان لإنشاء دولة مسيحية، وكان خط بريطانيا الصهيوني يمتد من جبل الشيخ إلى صور، فأصر الفرنسيون على توسيع رقعة لبنان بإزاحة الخط جنوباً ليمر برأس الناقورة، بضم مناطق غالبيتها شيعية ضعيفة لم تر فيها خطراً على لبنان الجديد ووافق البريطانيون على ذلك مقابل بقاء تل القاضي بما في ذلك منبع نهر دان في فلسطين، على رغم كون أراضي التل ملكاً لعائلة لبنانية، ومقابل توسيع حدود فلسطين لتشمل مصب نهر اليرموك.

وانعكس الأمر في حال منطقة بانياس، فأصر الفرنسيون على بقائها في منطقتهم، ووافق البريطانيون على مضض، واستمر خط الحدود جنوباً موازياً لنهر الأردن وعلى بعد قليل منه إلى الشرق، لكي يضمن وجود النهر بكامله في فلسطين، كما حرص البريطانيون على أن تكون بحيرة طبرية كلها في فلسطين، ولتأكيد ذلك، استمر خط الحدود على بعد 10 أمتار من الشاطئ الشرقي الشمالي للبحيرة، ثم توسع في الأراضي السورية لكي يضم مصب نهر اليرموك بأكمله شرق الحمة، ثم يعود الخط بعد ذلك إلى منتصف نهر الأردن، ليكون الخط الفاصل بين شرق الأردن وفلسطين، وتم تعليم الحدود على مسافة طولها 78 كلم مع لبنان،و 79 كلم مع سورية.

وهكذا نجحت السيطرة الصهيونية على الحكومة البريطانية في الاستحواذ على أكبر قدر من مصادر المياه في المنطقة، وبعد أكثر من سنة تم توقيع اتفاق الحدود بين ممثلي فرنسا وبريطانيا في 23 تموز (يوليو) 1923.

لكن هذا التخطيط القسري، من دون استشارة أهالي المنطقة وأخذ مصالحهم في الاعتبار، أدى إلى مشاكل كثيرة، كادت تنسف الاتفاق كله. شطر هذا الخط أراضي 22 قرية في قضاء صفد، فأصبحت الأرض في جانب والقرية في جانب آخر (كما حدث عند تخطيط خط الهدنة عام 1949) وتم فصل الناس، وهم أمة واحدة، على جانبي الخط مثلما فصلت قرى عالمة الشعب ورامية وعديسة والمطلة.

ولم تكن الضمانات التي أدرجت في اتفاق 1923 كافية، على رغم أنها أكدت حق سورية في استعمال خط السكة الحديد حتى سمخ (جنوب بحيرة طبريا)، وبناء رصيف على البحيرة في سمخ، وفي استخدام مياه نهر الأردن، وفي الملاحة والصيد في الحولة وطبرية تماماً كما لفلسطين، وفي وصول البضائع والأشخاص إلى سمخ من دون جمارك أو قيود.

لذلك نشأت الحاجة إلى توقيع اتفاق "حسن الجوار بين فلسطين وسورية ولبنان"، في2 شباط 1926 بتوقيع المندوب السامي في فلسطين من جهة، ونظيره في سورية ولبنان من جهة، ويقضي الاتفاق الجديد بحماية حقوق السكان على جانبي الحدود، باستخدام مياه الأنهار والبحيرات للري والشرب والملاحة والصيد، وعبور الحدود من دون جوازات، ونقل محاصيلهم من دون جمارك، وتطبيق قوانين أقل الضرائب في أي من البلدين عليهم، وتسري هذه التسهيلات على السكان المقيمين في منطقة الحدود بغض النظر إن كانوا مواطنين تابعين لهذا الجانب من الحدود أو ذاك، وفي حال الخلاف على تطبيق شروط هذا الاتفاق، يلجأ الطرفان إلى لجنة خاصة من الحكومات الثلاث، ويحال أي إهمال في تنفيذه إلى محكمة العدل الدولية. وهكذا، فأنه رغم النيات الاستعمارية لكل من الدولتين، يعطي اتفاق "حسن الجوار" الآن فرصة جيدة للمطالبة بالحقوق السورية.

الخط الثاني: خط الهدنة في 02 تموز 1949:

على رغم تراجع سورية عن احتلال دجانياً آ، ب في عام 1948 إلا أنها بقيت على الضفة الشرقية لبحيرة طبرية وحول بحيرة الحولة في الأراضي الفلسطينية، وأصرت إسرائيل على خروج سورية من فلسطين، معتبرة أنها وريثتها، وإن هذه المنطقة جزء من الدولة اليهودية حسب قرار التقسيم، وأشار القنصل الأميركي في القدس إلى هذه المغالطة، أنه إذا كانت إسرائيل ترغب في التقسيم، فلتنسحب إلى حدوده، وبذلك لا يكون لها أو لسورية حق في احتلال أي منطقة خارج التقسيم، وإن كانت ترغب في الاحتفاظ بأراض سيطرت عليها، فإن لسورية حقاً في ذلك أيضاً.

ونجح رالف بانش في إقناع حسني الزعيم بشروط الهدنة، خصوصاً وإن الزعيم كان يسعى إلى توثيق علاقاته والحصول على معونة من أميركا، كما أنه عرض علي بن غوريون اتفاق سلام يوافق بموجبه على توطين اللاجئين في سورية. وكان من أهم شروط الهدنة تحويل المناطق التي سيطرت عليها سورية إلى مناطق منزوعة السلاح، وهي ثلاث: الأولى الشمالية في أقصى الشمال الشرقي من فلسطين، شمال تل العزيزات، ومساحتها 4 كلم مربع، والثانية الوسطى مثلث واسع جنوب بحيرة الحولة يصغر إلى شريط في محاذاة نهر الأردن حتى مصبه في طبرية ومساحتها حوالي 34 كم مربع، والثالثة الجنوبية في جنوب شرقي طبرية في خط يمتد حتى شرق الحمة ويعود غرباً في محاذاة نهر اليرموك ثم يتصل ثانية ببحيرة طبرية شرق سمخ، ومساحتها 32 كلم مربع، ومجموع المناطق الثلاث حوالي 70 كلم مربع، (انظر الخريطة).

في المنطقة الثانية (الوسطى) توجد 4 قرى فلسطينية هي كراد الغنامة وكراد البقارة ومنصورة الخيط ويردة، وبها مستعمرة واحدة هي مشمار هايردن، وفي المنطقة الثالثة (الجنوبية) توجد 3 قرى فلسطينية هي الحمة والنقيب والسمرة، ومستعمرة واحدة هي عين جيف.

وكانت شروط الهدنة واضحة: يتمتع السكان المحليون بحرية العيش والعمل، ويمنع دخول قوات عسكرية إلى المنطقة، عدا شرطة مدنية من الأهالي لحفظ الأمن الداخلي ويحملون أسلحة خفيفة، وأعطى مجلس الأمن سلطة كاملة لرئيس لجنة الهدنة المشتركة لتطبيق الاتفاق وحل النزاع الناشب، وتأكيداً لطابع نزع السلاح عن المنطقة، حددت اتفاقية الهدنة منطقة محيطة بالمناطق المنزوعة السلاح عرضها 5 كلم لا يسمح فيها بوجود الأسلحة الثقيلة (على غرار النظام المطبق الآن في سيناء).

ومن الضروري الإشارة إلى أن سورية لم تكن توافق على وجود مناطق منزوعة السلاح أو على توقيع اتفاقية الهدنة إلا بعد أن حصلت على ضمانات بأن هذه المناطق غير خاضعة لسيادة إسرائيل. لذلك فقد وجه بانش الرسالة التي أصبحت تعرف باسم (التفسير الرسمي)، في 1949/6/26 (قبل التوقيع) إلى كل الأطراف والأمم المتحدة جاء فيها: "أن مسألة الحدود الدائمة، والسيادة على المنطقة، والجمارك والعلاقات التجارية وما شابه ذلك يجب أن يتفق عليها في اتفاقية السلام النهائية وليس في اتفاقية الهدنة لقد واجهتنا صعوبة كبيرة في المفاوضات لنعالج طلب إسرائيل غير المؤهل بانسحاب القوات السورية من فلسطين، وبعد جهد شديد أقنعنا السوريين بذلك، وأمل ألا ينقض هذا بمماحكات قانونية حول موضوع السيادة والإدارة " وبعد فترة هدوء استمرت سنتين، بدأت إسرائيل بإثارة القلاقل للاستيلاء على هذه المناطق ومياهها.

خط 4 حزيران 1967 عشية الحرب:

بدأت إسرائيل بإنشاء مستعمرة في المنطقة الجنوبية شرق بحيرة طبريا وحصنتها بخنادق وأسلاك شائكة مزدوجة ثم حفرت قنوات مياه من البحيرة ثم أطلقت جراراتها الزراعية لتحرث في الأرض العربية قريباً من قريتي التوافيق العليا والسفلى، وفي كل مرة كان الجرار يتقدم في أرض عربية مسافة أكبر لاستفزاز سورية حتى تحتل إسرائيل بعدها كل المناطق المنزوعة السلاح. وبعد 25 عاماً اعترف موشي دايان بذلك قائلاً: إننا كنا نسعى إلى إثارة أعصاب السوريين فإذا أطلقوا الرصاص نستخدم المدافع وسلاح الجو وكان بن غوريون قد قرر جر مصر إلى حرب مع إسرائيل بالاعتداء على سورية التي تربطها مع مصر معاهدة الدفاع المشترك المبرمة في 20 تشرين الأول 1955، لكن جمال عبد الناصر لم يستجب لهذا الاستفزاز ولا لاستفزازه بهجوم إسرائيل على صبحة والكونتيلة في سيناء في ذلك العام ووجد بن غوريون أخيراً فرصته في التآمر مع بريطانيا وفرنسا والتخطيط للعدوان الثلاثي على مصر عام 1956.

وفي مطلع عام 1951 بدأت إسرائيل بتجفيف مياه بحيرة الحولة وتحويل المياه إلى مشروع القناة القطرية التي تنقل المياه إلى النقب. أرسلت إسرائيل الحفارات إلى شرق النهر خلافاً لاتفاقية الهدنة، وضيقت على أهالي القرى الفلسطينية بأن منعتهم من بيع محصولاتهم أو شراء لوازمهم من سورية، وطردت 785 من أهالي كراد البقارة وكراد الغنامة، وطردت كذلك عرب الشمالنة.

وأصدر مجلس الأمن قراراً بوقف أعمال تحويل المياه، وفي عام 1953 أوقف ايزنهاور المعونة المقررة إلى إسرائيل، وأرسل إيريك جونستون ليفاوض على توزيع المياه بين دول المنطقة. ونتيجة للضغط الأميركي أوقفت إسرائيل أعمال تحويل المياه من الحولة، لكنها بدأت مشروعها القطري من شمال غربي بحيرة طبرية مما استدعى مضخات رفع لنقل المياه إلى النقب. كان بن غوريون مهووساً بالنقب. كان يخطط للدخول في حرب مع جمال عبد الناصر، باستفزاز سورية، فبينما يحول مياه الشمال إلى الجنوب، يسيطر أيضاً على المناطق المنزوعة السلاح في الشمال والجنوب، وبينما طرد سكان الشمال في ضجة دولية استدعت اجتماع لجنة الهدنة ومجلس الأمن، طرد سكان الجنوب من دون أن يسمع أحد بذلك. وبينما بسط سلطة إسرائيل على المناطق المنزوعة السلاح في الشمال، بسط سلطة إسرائيل على مثلها في الجنوب (مثلث العوجة، ومساحته 260 كلم مربع) وهي أكبر بكثير من الشمال، دونما ضجة، وفي الحالتين كان مجرم الحرب ارييل شارون هو قائد تلك العمليات وفي تشرين الأول 1956، بينما كانت القوات الإسرائيلية تهاجم مصر، كانت هذه القوات تطرد آخر فلسطيني من المنطقة الوسطى حول بحيرة الحولة تحت تهديد السلاح.

وما أن بدأ العدوان الثلاثي عام 1956 حتى أصبحت المناطق المنزوعة السلاح مقسمة بحكم الأمر الواقع بين سورية وإسرائيل. احتلت إسرائيل قرى النقيب والسمرة في الجنوب على شاطئ بحيرة طبرية وكراد البقارة وكراد الغنامة جنوب بحيرة الحولة وأراضيها، وسيطرت سورية على القطعة الصغيرة غير المأهولة في أقصى الشمال وفي الشريط الأوسط شرق النهر وعلى قرية الحمة وما حولها، مما لا تزيد مساحته عن 20 كلم مربع أي أقل من ثلث المجموع، وبقي الوضع كما هو عليه حتى عام 1967.

وفي عام 1964، انتهت إسرائيل من تنفيذ القناة القطرية، وبدأ العرب مشروعهم بتحويل منبع نهر الأردن من الحاصباني وبانياس في الاراضي العربية لتصب في نهر اليرموك متفادية طبرية، لكن إسرائيل قامت بغارات جوية في 1966 لتدمير المشروع العربي فتوقف. ولكي يستقر الأمر لإسرائيل نهائياً باحتلال مصادر المياه والمناطق المنزوعة السلاح، قامت باحتلال الجولان والضفة وغزة وسيناء في حرب 1967، وكما هو معلوم اليوم فإن الدافع الرئيسي لتلك الحرب هو الاستيلاء على مصادر المياه والسيطرة الكاملة على بحيرة طبرية.

ما هي الخيارات العربية؟ أقول الخيارات العربية، لأنه لا بد أولاً من توحيد المواقف العربية، ليس لأن هذا منطق الأمن العربي فحسب، بل لأنه واقع الجغرافيا والتاريخ والقانون، فأي الخطوط الثلاثة أفضلها إذن للموقف العربي، وكيف يمكن الدفاع عنه؟

أولاً يجب استبعاد خط 4 حزيران (يونيو) 1967، لأنه خط مائع، ليس له مرجعية قانونية، ولم يثبت في معاهدة أو اتفاقية من أي نوع، وليس له تعريف مقبول، فهذا الخط المجهول المكان هو حصيلة اعتداءات إسرائيل على المنطقة المنزوعة السلاح ما بين 1951 - 1956، وبقي كما هو عليه منذ العدوان الثلاثي في السويس حتى 1967.

أما خط 20/7/1949 فهو مثبت في "اتفاقية الهدنة" ويحصر ثلاث مناطق منزوعة السلاح، صحيح أنه تم تثبيت هذا الخط في عهد حسني الزعيم، الذي لم يمثل أفضل المواقف السورية، ولكنه يحدد المواقع السورية داخل فلسطين، وليس على حدودها، كما أنه يضمن حقوق القرى الفلسطينية على الحدود، بما في ذلك الأرض والماء، ويجعل سورية دولة مشاطئة لنهر الأردن وبحيرة طبريا، ويصل بها إلى مصب نهر اليرموك.

أما خط الحدود الدولية عام 1923، فتسعى إليه إسرائيل باعتبارها وريثة لفلسطين (State Successor) وهذا الادعاء ليس صحيحاً، لأنه إذا كان تقسيم فلسطين حسب القرار 181 هو المرجع، فإن على إسرائيل التراجع إلى هذه الحدود وإعادة 24 في المائة من فلسطين (أي 6,320 كلم مربع) إلى العرب وإذا كان الوضع عام 1948 هو الحكم، فإن لسورية الحق في احتلال المناطق المنزوعة السلاح وهي 70 كلم مربع أي حوالي 1 في المائة من الأرض التي احتلتها إسرائيل زيادة عن مشروع التقسيم. أما أن تختار إسرائيل مرة من قرار التقسيم ومرّة من احتلالها العسكري غير المعترف به أحسن الخيارات، فهو موقف مرفوض، وقد رفضته أميركا في حينه على لسان قنصلها في القدس برديت في 1949/4/20. ولو حدث تبادل في الأراضي، فإن سورية تستطيع، بعد اتخاذ موقف عربي موحد، أن تتنازل عن جزء من هذه الأراضي الخصبة الغنية بالمياه، بأرض أكبر منها كثيراً في الضفة الغربية، وأكبر كثيراً جداً في الجنوب لتوسيع قطاع غزة، ولكن ليس لإسرائيل الحق أبداً في هذه المناطق منزوعة السلاح داخل الحدود الدولية لفلسطين، لأن اتفاقية الهدنة نزعت السيادة عنها لإسرائيل بموجب خطاب رالف بانش في 1949/6/26 المشار إليه سالفاً، والذي تم اعتماده من الأطراف ومن الأمم المتحدة قبل توقيع اتفاقية الهدنة. لذلك، يجدر بسورية ألا تتخلى عن المناطق المنزوعة السلاح لإسرائيل، فذلك حق عربي، أو على الأقل حق سوري محض.

أما قول إسرائيل بأن انسحابها من هضبة الجولان يعرضها للخطر فقد أثبت كثير من الخبراء العسكريين خطأ هذا القول في عصر الأسلحة الحديثة وأجهزة الإنذار المبكر، وحافظت سورية دائماً على هدوء حدودها بعد الوصول إلى اتفاقات مرضية، والدليل على ذلك أنه لم يقتل مدني إسرائيلي واحد خلال الفترة 1949-1967، بينما سقط الكثير من الشهداء السوريين وعلى العكس فإن وجود إسرائيل على الهضبة يمثل خطراً عسكرياً حقيقياً على العاصمة السورية، التي تبعد كيلومترات قليلة وتقع في مرمى المدفعية، لذلك فإن من حق سورية الدفاع عن نفسها، وإزالة هذا الخطر الجاثم عن قرب.

لكن طمع إسرائيل الحقيقي يكمن في المياه، وعندما تبدأ المفاوضات، نتوقع أن تقوم إسرائيل بجهود مكثفة لمنع سورية من الحصول على حقوقها في كونها دولة مشاطئة لنهر الأردن وبحيرة طبرية، وما يتبع ذلك من فقدانها لمصادر المياه من الجولان التي تقدر بحوالي 50 مليون متر مكعب سنوياً، وفقدان السيطرة على الحاصباني وبانياس، هذا كله بالإضافة إلى أن إسرائيل تنهب من مياه اليرموك 100 مليون متر مكعب سنوياً مقارنة بحصتها منه حسب خطة جونستون البالغة 25 مليوناً فقط، وتنهب أيضاً كامل مياه نهر الأردن العليا شمال طبرية البالغة 550 مليون متر مكعب سنوياً مقارنة بحصتها البالغة 375 حسب خطة جونستون، وبذلك تكون نهبت 175 مليون متر مكعب هي حصة سورية ولبنان وفلسطين والأردن.

وعندما تدعي إسرائيل بأنها ستنسحب من معظم الجولان ثمناً للسلام الكامل، فإنها في الواقع لا تخسر شيئاً من المياه التي سلبتها، وبيّن تقرير ظل سرياً مدة طويلة أصدره خبراء في مركز (جافي) للدراسات الاستراتيجية الحد الذي يمكن أن تنسحب إليه القوات الإسرائيلية، بحيث لا تخسر إسرائيل تلك المياه، ولا تبقى سورية دولة مشاطئة (انظر الخريطة) ويبدو منه ظاهرياً أن إسرائيل انسحبت من معظم أراضي الجولان.

ولا نعتقد أن سورية ستقبل بذلك إطلاقاً، لأنه يحرمها من حقوقها الأساسية كدولة مشاطئة، ويحرمها مع الدول العربية الأخرى من كميات هائلة من مياه الأردن واليرموك وبانياس والحاصباني وجزء من دان، ويحرمها كذلك من حقها والحق الفلسطيني في المناطق المنزوعة السلاح في فلسطين. ولابد أن الولايات المتحدة ستضغط من جهة وتعرض المعونات من جهة أخرى، لكن الأخطار الناجمة عن قبول هذا الوضع ستبقى المنطقة في حال اضطراب مستمر، ولن يكون هناك حل دائم إن موقف سورية التاريخي والقانوني قوي وصلب وبإمكانها الالتجاء إلى القانون الدولي أمام محكمة العدل الدولية لإثبات حقوقها.

وفي كل الأحوال، فإن لسورية الحق في أن تكون دولة مشاطئة لنهر الأردن وبحيرة طبرية، وتتمتع بكل الحقوق للدولة المشاطئة، التي فصلها اتفاق "حسن الجوار" عام 1926، وليكن شرط الاعتراف بإسرائيل (إن حصل) اعتراف إسرائيل بشروط اتفاق حسن الجوار هذا.

ولا شك في أن سورية ستحرص، في حال اعترافها بإسرائيل، ألا تعترف بأن الأراضي في الجانب الإسرائيلي هي أراضي إسرائيلية، أينما كان الخط الذي يتفق عليه، ففي "اتفاقية الهدنة" مع سورية، تنص المادة الثانية (ومثلها مع الأردن والمادة الرابعة مع مصر) على أن خط الهدنة ليس إلا خط مواقع القوات العسكرية في ذلك التاريخ، وأنه لا ينتقص من حقوق ومطالبات وموقف كل طرف التي يجب تسويتها في معاهدة السلام النهائية. وحرصت مصر في معاهدة السلام مع إسرائيل على أن تذكر أن هذه المعاهدة لا تنطبق على خط الهدنة إذا كان واقعاً في فلسطين، ولا تنتقص من حقوق الفلسطينيين الشرعية، وذكرت الأردن ذلك في معاهدتها تقريباً، وبمعنى آخر فإن معاهدة السلام مع مصر لا تتعرض لخط الهدنة في قطاع غزة، ومعاهدة السلام مع الأردن لا تتعرض لخط الهدنة مع الضفة، ولكن تثبت الدولتان حدودهما مع إسرائيل من حيث تتطابق هذه الحدود مع الحد الدولي مع فلسطين، وبينما تقر إسرائيل بأن الأراضي خارج الحدود هي أراض مصرية أو أردنية، فإن مصر والأردن لا تقران بالضرورة أن الأراضي داخل الحدود هي أراضي إسرائيلية.

وهذا بالطبع ينسجم مع المبدأ السائد بأن معاهدات السلام لا تعني تخلي الدول العربية عن حقوق الفلسطينيين في فلسطين.