التاريخ يسطره المنتصر، تلك مقولة شائعة، لأن الهزيمة مؤلمة، ولا يريد أحد أن يثير المواجع والآلام، ولا أن ينسب لنفسه الفشل والخذلان. لكن هذا الفشل يبقى سائداً ما لم نستق منه العبر ونتعلم منه الدروس.

ولكي نواجه هذه التجربة، ونتعلم منها، يجب أن ندرس ما يدعى العدو وما يقول الصديق بتمحيص وواقعية، واليوم بعد خمسين عاماً من (النكبة) لدينا عشرات الأبحاث والكتب التي كتبها الغرب وإسرائيل. وهذه مرت بمراحل من التطور ابتداء من تمجيد الصهيونية وبطولتها التي تدل على "إخلاص معتنقيها وعدالة مبدئهم" إلى نقد يوشي بخلل في المبدأ، وكشف لجرائم حرب تقضي على خرافة (طهارة السلاح). هذا التحول مرده إلى شعور إسرائيل بالنضوج السياسي وإحكام السيطرة على الأرض، سيطرة قبلت بها معظم أقطار العالم، إن لم يكن بقوة القانون فبقوة الأمر الواقع، ولهذا سمحت إسرائيل بفتح بعض ملفاتها للباحثين الإسرائيليين، فصدرت سلسلة من الكتب أولها (الإسرائيليون الأوائل) لتوم سيجيف وأهمها للمؤرخ بنى موريس، الذي أكد أن خروج الفلسطينيين من ديارهم لم يكن بأمر من الحكومات العربية (الأمر الذي سبقه إلى إثباته وليد الخالدى وارسكن تشلدرز قبل 35 عاماً)، لكنه كان نتيجة الحرب وليس نتيجة تخطيط. أما إيلان بابي وسمحا فلابان ونورمان فنكلشتين فقد دحضوا الادعاء بأن الخروج كان نتيجة عرضية للحرب، ولم يقفوا عند حد إبراء العرب من مسؤولية التهجير، كما فعل موريس دون إلقاء اللوم على إسرائيل، بل بينوا أن الخطة مبيتة ومنظمة، وطبقت على جميع المستويات، مع الإدراك الكامل بخطورة وجود الدليل الموجود المكتوب، لذلك عمد بن جوريون ومساعدون الكبار إلى تنفيذ خطة (التطهير العرقي) (كما نشهده اليوم في كوسوفا) وتحويل فلسطين إلى (أرض بلا شعب) على أساس أوامر شفوية وتفاهم بين القادة في معظم الأحوال. (أصدر بن جوريون أمره إلى إسحاق رابين بطرد أهالي اللد والرملة بإشارة من يده، ولكن هذا الاخير أصدر أمراً مكتوباً إلى قادة الوحدات)، لكن الأدلة على وجود خطة (التطهير العرقي) دامغة. بني موريس نفسه عاد واعترف بخطئه إذا كتب قبل شهور أنه وجد أدلة على وجود أوامر لطرد الأهالي من الجليل في أكتوبر 1948.

ولما كانت هذه الأدلة تؤدي إلى الكشف عن جرائم الحرب التي لا تسقط بالتقادم مثل المذابح وقتل الأسرى وتدمير القرى والمدن دون حاجة عسكرية، لذلك عادت إسرائيل وأقفلت العام الماضي الملفات الحساسة التي تحتوي مثل هذه المعلومات.

ومقابل عشرات الكتب التي تسرد الرواية الإسرائيلية الأصلية أو المعدلة، لا نجد الرواية العربية الموثقة إلا في كتب لا تتجاوز أصابع اليد وفي بعض مذكرات القادة، الذين يكتبون بعد زمن، دون الاعتماد على وثائق، منتفعين بالحكمة التي تبدت لهم بعد مرور الأحداث. المشكلة إذن ليست فقط في رواية الهزيمة، التي لا يرغب أن ينتمي إلى حدوثها أحد، بل هي أيضاً في المعنى الحضاري للتسجيل والتوثيق، الذي هو جزء من الكفاءة الغائبة عن إدارة دفة الحرب نفسها.

ولم يدرك العرب حتى اليوم، إلا في أضيق نطاق، أن من لا سجل له لا تاريخ له، ولذلك لم يلتفتوا، إن خانهم التدبير في تسجيل التاريخ العسكري والسياسي، إلى تسجيل التاريخ الشفهي لمئات الآلاف من الشهود وهم اللاجئون الفلسطينيون، وهم المصدر الوحيد الحي الصادق العفوي لتسجيل هذه الأحداث المأساوية. وأعرف اليوم أنه توجد جهود مخلصة، ولكنها متفرقة، لتسجيل هذا التاريخ الشفهي للنكبة. (وبالمقابل، نجد حلفاء الناتو يقومون اليوم بحملة كبيرة لتسجيل شهادات لاجئى كوسوفا).

السياسة العاجزة:

لا يمكن القول إن حرب فلسطين وقعت فجأة، إذا كانت الِقدْر تغلي بالأحداث منذ وعد بلفور عام 1917 على الأقل. كانت الحرب حتمية في نظر بن جوريون منذ عام 1942 حين قال في مؤتمر بالتيمور إن كل فلسطين ستكون يهودية، وفي عام 1946 وضع خطة عسكرية لاحتلالها عُدلت عدة مرات، وكان آخرها خطة دالت التي طبقت في أبريل 1948 قبل خروج الإنجليز، وكان بن جوريون مستعداً للحرب عسكرياً، إذ حشد لذلك 40.000 محارب من الهاجاناو 16.000 من قوات الميدان،و 6000 فرد من قوة ضاربة بالإضافة إلى 5000 إرهابي من عصابات الأرجون والشتيرن. هذا ما وجدته لجنة التحقيق الأميركية البريطانية في فبراير - مارس 1946 في فلسطين، عندما طلبت تسريح هذه الجيوش الخاصة، وأوصت باستمرار الانتداب إلى أن تحل محله وصاية دولية.

في هذا الوقت المبكر لم يكن لدى العرب استراتيجية سياسية أو عسكرية من أي نوع، ولم يجتمعوا لبحث الموقف المتأزم إلا قبل شهر واحد من التصويت على قرار التقسيم، في منتصف أكتوبر في عالية (لبنان). لقد كان قرار التقسيم الذي توشك الأمم المتحدة إقراره ضربة قاصمة أذهلت العرب، ودعتهم إلى تدبر الأمر على عجل ودون تخطيط مسبق، فهؤلاء اليهود المهاجرون الذين لم يتمكنوا من السيطرة على أكثر من 5.5% من مساحة فلسطين على مدى 30 عاماً من التواطؤ البريطاني، يوشكون أن يحصلوا باعتراف دولي، غربي في الأساس، على السيادة على 10 أضعاف هذه المساحة (54% من فلسطين) وأكثر من نصف سكانها من العرب، بينما يوافق الغرب على إنشاء دولة عربية في أقل من نصف فلسطين وليس بين سكانها يهود.

في اجتماع مجلس الجامعة العربية في عالية (7-15أكتوبر 1947) سمع العرب لأول مرة تقريراً عسكرياً واقعياً قدمه اللواء إسماعيل صفوت من العراق، وفيه بيّن القدرات العسكرية الصهيونية، وأوضح أنه ليس لعرب فلسطين من القوة ما يقبل القياس بتلك القدرات، وأوصت اللجنة العسكرية بتجنيد وبتسليح المتطوعين، وحشد الدول العربية لأقصى ما يمكن من قواتها النظامية وتكوين قيادة عربية موحدة، وإمداد عرب فلسطين بما لا يقل عن 10.000 بندقية(!) ورصد ميزانية مليون جنيه، ولم يتم تنفيذ الجزء الأعظم من هذه التوصيات.

ولم تكن للعرب خطة موحدة للإعداد لحرب 1948، ولا نية شاملة لدخلوها، فقد أفهم النقراشي زملاءه في الاجتماع أن مصر مشغولة بخلافها مع بريطانيا حول المعاهدة، وليست مستعدة لدخول الحرب. والملك عبد الله كانت له خطة خاصة به نحو فلسطين، وتكشف تقارير سفراء بريطانيا في القاهرة وعمان وبيروت ودمشق وبغداد وجدة إلى لندن هذه الصورة واضحة في أكثر من 6000 صفحة أصبحت مفتوحة للبحث حديثاً.

والغريب أن معظم معلومات هؤلاء السفراء جاءت من الوزراء العرب أنفسهم، إذ يهرع هؤلاء إلى إخبار بريطانيا بما تم في اجتماعاتهم. يقول كير كبرايد في برقية رقم 302 من عمان إلى لندن في 1947/10/11، أخبرني الملك عبد الله، بعد أن تحدث إلى سمير الرفاعي (وزير خارجيته) وصالح جبر (نظيره في العراق) أن لبنان وسورية والسعودية تبلغ السفراء الإنجليز بما يدور، وأن الأردن يفعل ذلك لئلا (يسبقه أحد إلى فلسطين). قال الملك: (إنه من الحمق طرد العرب لليهود من فلسطين، إذ ليس لهم القدرة على ذلك، ولن يسمح لهم الغرب بذلك أصلاً، والأفضل أن يتم الاتفاق مع اليهود على حصرهم في جزء من فلسطين). والمقصود بذلك أن يضم باقي فلسطين إلى شرق الأردن، وألا تقوم دولة فلسطينية مستقلة بزعامة عدوه اللدود الحاج أمين الحسيني.

وعلى مدى مئات الصفحات من برقيات السفراء، لم أجد قبل حرب فلسطين أو أثناءها أي زعيم عربي أخبر بريطانيا أنه من الضروري إقامة دولة فلسطينية ولا حتى على الجزء العربي الذي تبقى بعد التقسيم أو بعد اندحار الجيوش العربية. وكان قلق سوريا أن يمتد نفوذ الملك عبد الله إلى فلسطين ويشكل دولة قوية تمتد فيما بعد لتنفذ حلمه القديم في ضم سوريا، وكانت السعودية تطالب بالعقبة ومعان في جنوب شرق الأردن، ولا تريد أن يبتلع الملك عبد الله فلسطين، ومواقف العراق كانت متغيرة بين سياسة هاشمية وسياسة بريطانية يقودها نوري السعيد، ومواقف مصر كانت محكومة باعتبارات داخلية. وفي إحدى البرقيات عرض صدقي باشا على الإنجليز إقناع العرب بقبول التقسيم مقابل تعديل بريطانيا معاهدتها مع مصر، لكن لم يؤخذ عرضه جدياً. أما الموقف العربي المعلن فكان واضحاً: إحباط مشروع التقسيم والاحتفاظ بفلسطين دولة عربية موحدة، وكان الدافع الأكبر لذلك هو خشية الزعماء العرب بل ذعرهم أحياناً من رد فعل الجماهير العربية.

وما أن أقر قرار التقسيم بأغلبية ضئيلة حتى جاءت ردود الفعل الفلسطينية واليهودية على النمط الذي استمر فيما بعد: أعلنت الهيئة العربية العليا لفلسطين الإضراب ثلاثة أيام احتجاجاً على القرار، بينما بدأت العصابات الصهيونية: الهجانا والأرجون وشتيرن بغارات على الأحياء العربية في القدس ويافا وحيفا، وألقت قنابل على المقاهي في الطريق العام وتجمعات العمال، وفجرت سيارات مفخخة في يافا وعلى فندق سميراميس العربي في القدس.

كان الموقف العربي الرسمي لا يزال سلبياً. كتب هارولد بيلى في تقريره المؤرخ في 1947/12/22 أنه تم أعلامه أن مجلس الجامعة العربية قرر في اجتماعه الأخير، (أن استعمال الجيوش العربية ضد اليهود، حتى بعد انتهاء الانتداب، غير عملي في الوقت الحاضر). وأضاف شارحاً في تقرير لاحق بتاريخ 1948/1/6، موقف الدول العربية كالآتي: (العراق ترغب أن تحتل قوات شرق الأردن كل فلسطين بما فيها المناطق اليهودية، سوريا ترفض بشدة احتلال شرق الأردن لأي جزء من فلسطين حتى لو كانت قواتها تحت قيادة الجامعة العربية، وهي تدرب الآن قوات غير نظامية لدخول فلسطين، كبديل عن ذلك. أما لبنان فترى أن احتلال شرق الأردن للمناطق المخصصة للعرب في التقسيم مرفوض، وقد يؤدي إلى ضياع شرق الأردن نفسها، أما إذا احتلت هذه القوات فلسطين كلها فسيصفق لها كل العرب. أما مصر، حسب رأس سفير بريطانيا سير رونالد كامبل، فترى رأي لبنان، أما السعودية، فتعتبر أن احتلال الملك عبد الله لجزء من فلسطين لنفسه هو خيانة).

المتطوعون:

وبذلك لم يبق من أمل سياسي وعسكري للدفاع عن فلسطين إلا قوات المتطوعين من الداخل والخارج. أما المتطوعون من القرى والمدن الفلسطينية فلم يتجاوز عددهم 2500 موزعون على بضع عشرة مدينة وأكثر من 400 قرية، سلاحهم بنادق عثمانية قديمة ذخيرتها عدد محدود من الطلقات، وتدريبهم بدائي، وليس لديهم معدات خفيفة أو ثقيلة ولا أجهزة اتصال لا سلكي. ثم دخل إلى فلسطين، (جيش الإنقاذ العربي) بقيادة فوزي القاوقجي وقوامه 3155 متطوعاً خليط من الجنسيات العربية، وموزع بحيث تتركز أكثر قواته في المناطق العربية الخالصة، وأقلها في المناطق التي يكثر فيها اليهود حيث تشتد الحاجة إلى دفاعهم عن العرب. كان توزيع هذه القوات وتصرفات بعض أفرادها من نهب الأهالي وإجبارهم على دفع إتاوات وعدم انضباطهم من أهم الأسباب التي ساعدت على هزيمتهم واحتلال اليهود للأراضي العربية التي جاءوا لإنقاذها. ثم وصلت إلى جنوب فلسطين قوات من الإخوان المسلمين ومتطوعي الجيش المصري، وكان لهم على قلتهم (لم يتجاوز عددهم 500 بما في ذلك الفلسطينيون المتطوعون) أعظم الأثر على بقاء تلك المناطق كما هي عربية إلى أن دخل الجيش المصري، خصوصاً أن بن جوريون لم يدفع بقواته إلى الجنوب إلا في فترة متأخرة. لقد كانت شجاعتهم وتضحياتهم مضرب المثل خصوصاً مقارنة بتخاذل الآخرين.

دخلت قوات المتطوعين إلى فلسطين في فترات متفرقة من الستة شهور الأولى من 1948 قبل نهاية الانتداب، وقد أنذرت بريطانيا الدول العربية بالرد الصارم إذا دخلت قوات إلى فلسطين من حدودهم، على الرغم من دخول متطوعين صهاينة، معظمهم من جنود الحرب العالمية الثانية، إلى فلسطين دون معارضة بريطانيا. وعندما دخلت فلسطين قوات من المتطوعين المصريين والليبيين بقيادة اللواء عبد الواحد سليمان سبل باشا، كتب المندوب السامي الآن كننجهام في القدس إلى لندن (برقية 1048 في 1948/4/19) أن (هذا ستكون له عواقب خطيرة على الوضع في فلسطين وخطة انسحاب القوات البريطانية).

والقراءة السريعة لهذه البرقية أنه لا مانع عنده أن ترث القوات الصهيونية فلسطين، بدلاً من العرب، عند انسحاب القوات البريطانية. لكن السفير البريطاني في القاهرة كامبل رد على ذلك (برقية 501 في 23/4/1948) أنه لا يستطيع الاحتجاج نظراً للتصرف المخزي للقوات البريطانية، كما يراه العرب، في عدم حماية الأهالي العرب من الصهاينة، خصوصاً بعد رفضهم التدخل لحماية الأهالي في مذبحة دير ياسين، وإفراغ حيفا من أهلها العرب، تحت نظر وسمع القوات البريطانية.

كانت قوات المتطوعين الهزيلة المتفرقة تقف أمام 56.000 جندي صهيوني، مدربين تدريباً جيداً، معظمهم له خبرة سابقة في الحرب العالمية الثانية، ومع الجيش البريطاني. وكان اختيار المهاجرين اليهود ينصب على حملة السلاح والمتدربين إذ كان ثلثاهم من هؤلاء (سن 15 - 44 سنة)، بينما كانت النسبة الطبيعية لتلك الأعمار في فلسطين 14% فقط، أي حوالي السُبع.

عندما تأكد بن جوريون أن بريطانيا عازمة على إخلاء فلسطين، وأنها لا تسمح بقوات عربية (نظامية على الأقل) بدخول فلسطين وجد أن الفرصة سانحة لاحتلالها، بداية بالجزء المخصص للدولة اليهودية، ثم الامتداد بعد ذلك إلى ما يسمح به الميزان العسكري. بدأ تنفيذ خطة دالت في أوائل أبريل 1948، في وجود القوات البريطانية التي لم تحرك ساكناً إلا لمنع العرب من دخول فلسطين. وما أن جاء موعد انتهاء الانتداب، حتى تم لإسرائيل احتلال طبرية وحيفا ويافا وحي القطمون في القدس الغربية وصفد وبيسان، بالإضافة إلى 207 قرى عربية، ثم سقطت عكا بعد يومين من نهاية الانتداب البريطاني رسمياً في 15/5/1948.

وعند إعلان قيام دولة إسرائيل في 14/5، أثناء وجود القوات البريطانية، كانت إسرائيل قد طردت أكثر من نصف اللاجئين (52%)، واحتلت المدن الرئيسية في فلسطين وخطوط المواصلات والموانئ، وقطعت الطريق الساحلي الذي يصل بين غزة وبيروت (انظر الخريطة). واستطاعت إسرائيل أن تزيد مساحة الأراضي اليهودية أثناء الانتداب من 1.570 كيلو متر مربع (5.5% من فلسطين) إلى حوالي الضعف (3.400 كيلو متر مربع أو 13% من فلسطين).

تردد إسرائيل الخرافة القائلة إنها كانت تدافع عن نفسها أمام سبعة جيوش عربية، الواقع أن دخول تلك القوات العربية كانت بغرض إعادة أكثر من نصف اللاجئين الذين كانوا يطردون من ديارهم (كما تحاول دول الناتو أن تفعل اليوم في كوسوفا)، واسترجاع 7% من فلسطين التي احتلت في الشهرين الأخيرين. لكنها فشلت في الحالين، إذ تمكنت إسرائيل من هزيمة تلك القوات، واحتلال 78% من فلسطين، أي 14 ضعفاً للأرض اليهودية، وتشريد 805.000 لاجئ، عددهم اليوم 5 ملايين لا يزالون في الشتات بعيداً عن ديارهم.

كيف حدثت هذه (النكبة)؟ لقد كان وقوعها محتماً بكل المقاييس الواقعية. كانت النية السياسية مبعثرة ومتناقضة، والخطة العسكرية غير واضحة أو غير موجودة، والقدرة العسكرية أعجز من الهدف المطلوب، والأداء العسكري أعجز من الممكن. عندما انتشرت أخبار المذابح الصهيونية، وبدأ اللاجئون الفلسطينيون يصلون إلى البلاد العربية، هاج الرأي العام العربي، وخرجت مظاهرات حاشدة أدت في بلدين على الأقل: مصر والعراق، إلى تغيير دفة السياسة.

الجبهة المصرية:

في مصر، تخلى النقراشي عن معارضته لدخول الجيش المصري إلى فلسطين، وانصاع لرغبة الملك فاروق. ووافق مجلس النواب على دخول الجيش إلى فلسطين في 12/5، أي قبل 3 أيام من نهاية الانتداب. كانت الاستعدادات العسكرية ضعيفة للغاية، أوكلت قيادة القوات المصرية إلى اللواء أحمد على المواوي، الذي كان لعدة شهور سابقة مسؤولاً عن تدريب المشاة، وليست لديه خبرة عسكرية، وكان قائداً مكتبياً يستأذن القيادة بكل حركة قبل أن يقوم بها.

جاءه الأمر بالاستعداد لدخول فلسطين في 1948/5/10. لم تكن لدى القوات المصرية خرائط عن فلسطين، وتم استعارة بعضها من جلوب باشا في عمان. وكان بعض الجنود البسطاء يعتقدون أنهم في السويس لعمل مناورات (قال الفريق الشاذلي لقناة الجزيرة في 1999/2/6 أنه كان ملازماً أول في حرب فلسطين، وانه عند تخرجه من الكلية الحربية ودخوله فلسطين، لم يكن قد رأي قنبلة يدوية في حياته). والقارئ لكتاب (العروش والجيوش) الذي أعاد فيه محمد حسنين هيكل نشر (يوميات الحرب) المصرية يجد صورة واضحة للأداء العسكرى، إذا ما قورن بالرواية الإسرائيلية الرسمية ويوميات بن جوريون. وحتى أسماء الأماكن المذكورة في البرقيات العسكرية المنشورة في (يوميات الحرب) كانت مغلوطة لأنها منقولة عن الإنجليزية، وكان من السهل على الجيش معرفة أسمائها العربية من الأهالي على الأقل، والأمثلة على ذلك كثيرة (الصحيح بين قوسين): غزا (غزة) اهازيل (الهزيل)، العمرة (العمارة)، جريكو (اريحا)، قراطية (كراتيا)، جيروم (داروم)، عكير (عاقر)، هرميا (هربيا)، بربارا (بربرة)، الكورا (الجورة)، بيت هوجا (هوج)، كاستينا (قسطينة)، المحسير (جسير) وغير ذلك كثير. وأول ما قامت به القوات العربية كلها، والمصرية بينها، هو نزع سلاح الأهالي الفلسطينيين، بحجة أنهم لا يعرفون الحرب الحديثة، وهذا الإجماع العربية غريب جداً، إذ من البديهي الاستعانة بالأهالي (وهذا ما عملته قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية وكوسوفا). ويبدو أن السبب هو منع قيام دولة فلسطينية.

خلافاً لأي عرف عسكري، دخلت القوات المصرية على محورين ضيقين منفصلين، الأول: الشريط الساحلي من رفح حتى إسدود وتوقفت عند الجسر شمال إسدود، (يقول الإنجليز إن جلوب أوصى بهذا الرأي لأن التقدم شمالاً أبعد من ذلك في المنطقة المخصصة لليهود سيلاقى مقاومة عنيفة، فوجد هذا الرأي موافقة). والثاني من العوجة إلى بئر السبع ثم بيت لحم للالتحام مع قوات البطل أحمد بعد العزيز هناك، وباستثناء وصلة بين المحورين على طريق بيت جبرين - المجدل، لم يكن للقوات أي عمق، وأصبح وجود مستعمرات يهودية قليلة متناثرة يمثل شوكة في جنب القوات المصرية ومبرراً فيما بعد لربطها ببعضها واحتلال كل المنطقة العربية بينها. ولم تدخل القوات المصرية (ولا أي قوات عربية أخرى) أي منطقة مخصصة لليهود في التقسيم.

استقبل الأهالي القوات بالترحيب والاصطفاف على جانبي الطريق، ولم يمنع هذا بعض الصحافيين من المبالغة في تمجيد البطولات بنشر أخبار عن (احتلال) تلك الأراضي العربية (في ضوء القمر) الأمر الذي أيده وطلب الإكثار منه فيما بعد إبراهيم عبد الهادي (لرفع الروح المعنوية).

كان موقف القوات العربية عموماً موقفاً دفاعياً، ولم يقم أي منها بهجوم على نطاق واسع. كانت هناك معارك هجومية محدودة ظهرت فيها بطولات فريدة مثل احتلال القوات المصرية ديرسنيد شمال غزة، واحتلال القوات الأردنية والمتطوعين مستعمرات عتصيون جنوب القدس.

بعد 5 شهور من المراوحة في المكان، تعرضت القوات المصرية لهزيمة كبيرة لم تكن مبررة أبداً، نظراً لعجز اللواء المواوى عن اتخاذ القرار المناسب والسريع. بعد احتلال اليهود مناطق هامة في المنطقة الوسطى التي كانت في حماية الجيش الأردني، واطمئنان إسرائيل إلى عدم تحرك الجبهات الأخرى ضدها، اتجهت بكل قواتها إلى الجنوب للانقضاض على الجيش المصري. وكانت الحيلة لنقض الهدنة هي إصرار إسرائيل على إرسال قافلة تموين لعدد قليل من المستعمرات في النقب التي عزلها عن الشمال الخط الدفاعي المصري على طريق بيت جبرين - المجدل. فإذا رفضت مصر مرور القافلة، يكون هذا هو المبرر لاحتلال الجنوب. وهذا ما حدث. في 15 اكتوبر، هاجمت إسرائيل القوات المصرية في الموقع الاستراتيجي المعروف بتبة الخيش (دوار كوكبا) الذي يربط الشمال بالجنوب والشرق بالغرب، وسقط ذلك الموقع الهام، وكان قائده عبد الحكيم عامر في إجازة بالقاهرة، ولم يحسن نائبه التصرف نظراً لعدم وجود أوامر، كما لم يدفع اللواء المواوى بقوات أخرى لحماية هذا الموقع الحيوي أو لاستعادته. وفي نفس الوقت انطلقت (القلاع الطائرة) التي حصلت عليها إسرائيل في الهدنة الثانية لدك المجدل وغزة والعريش والقاهرة في آن، ونسفت إسرائيل جسر بيت حانون فقطعت بذلك خطوط الجيش المصري على الطريق الساحلي، مما اضطره إلى سحب قواته على الشاطئ الرملي، وتراجعت القوات من إسدود والمجدل إلى قطاع غزة، ومعها عشرات الآلاف من اللاجئين. وفي 21 أكتوبر تقدمت القوات الإسرائيلية لاحتلال موقع استراتيجي آخر (بئر السبع) واستغاث قائده بالمواوي، ولكن ما من مغيث. وجدت قوات السيد طه ومساعده جمال عبد الناصر نفسها محاصرة في قطاع الفالوجة، وبسقوط بئر السبع انقطع اتصال القوات المصرية في بيت لحم والخليل عن مصر، وفي أقل من أسبوعين، كانت إسرائيل قد احتلت 3.500 كيلو متر مربع، وحصرت القوات المصرية في بقع متناثرة، أكبرها قطاع غزة الذي تراجعت إليه ما تبقت من القوات، وتدفق إليه نحو 200.000 لاجئ احتلت قراهم. كانت كارثة بكل المقاييس، ولم تكن مبررة عسكرياً لا من حيث سرعة الانهيار ولا حجمه. وأقيل اللواء المواوى، وعين بدلاً عنه اللواء أحمد فؤاد صادق باشا.

والغريب أن يوميات الحرب التي نشرها هيكل توقفت عند بداية هذه الكارثة ولم تذكر أياً من الأحداث المؤلمة خلال الأربعة شهور الحاسمة التي تلت ذلك، ربما لأن المواوي ترك القيادة على عجل ولم تسجل اليوميات بعده أو لم تصل إلينا. وكان آخر تقرير يوم 18 أكتوبر يقول: (لا زالت قواتنا محتفظة بمواقعها "في بيت حانون" حتى الآن). [ملاحظة: نشر الجزء الثاني من اليوميات لاحقاً].

حاول اليهود إعادة الكرة بمهاجمة قطاع غزة الذي تضاعف عدد سكانه 4 مرات باحتشاد القوات المنسحبة واللاجئين المذعورين، لكن اللواء صادق كان قائداً من نوع آخر، ورغم أن القيادة في القاهرة طلبت منه الانسحاب من غزة، إلا أنه رفض الأمر وقال: (إن شرفي العسكري لا يسمح لي بترك ثلث مليون من النساء والأطفال ليذبحوا). ذكر لي كامل الشريف، الذي كان قائداً لقوات الإخوان المسلمين واعتقل في رفح مع قواته بعد اغتيال النقراشي وتولى إبراهيم عبد الهادي رئاسة الحكومة، أن اللواء صادق أرسل إليه في المعتقل يسال إن كان يرغب في المشاركة في القتال لصد الهجوم الإسرائيلي الجديد عند تبة 86 (الشيخ حمودة) مهدداً بذلك القطاع بأكمله، فوافق واشتركت قوات الإخوان مع الجيش في معركة عنيفة استعملت فيه قاذفات اللهب لأول مرة، وحصدت جنوداً إسرائيليين كثيرين بما فيهم قائدهم الروسي.

ولولا هذا النصر لما بقي اليوم مكان اسمه قطاع غزة، وأعيدت قوات الإخوان إلى المعتقل، لكن اللواء صادق أصر على منحهم أوسمة وهم في المعتقل رغم معارضة حكومة عبد الهادي.

اتجهت إسرائيل بقواتها إلى الأراضي المصرية ووصلت إلى مشارف العريش، لكنها انسحبت بناء على تهديد بريطاني. وفي يناير 1949 بدأت مفاوضات الهدنة مع مصر، ولم يبق من جنوب فلسطين عربياً إلا مثلث قاعدته خط يمر بعسلوج ورأسه عند أم رشرش.

الجبهة الأردنية:

لم تكن القوات الأردنية غريبة عن فلسطين، إذ كانت بريطانيا قد كونت قوة حدود شرق الأردن، واستعملتها لحراسة خط بترول العراق الذي يصب في حيفا وحدود فلسطين وبعض المناطق في الجليل. وعند نهاية الانتداب سرحت تلك القوات وأعيد تنظيمها في (الجيش العربي) (الجيش الأردني فيما بعد)، وتطوع بعض أفراده في قوة الحدود من فلسطينيين وشرق أردنيين في محاربة الصهاينة في فلسطين. وبناء على أوامر بريطانيا خرجت القوات الأردنية من فلسطين لتعود إليها في 15/5 بناء على أوامر الملك عبد الله.

قصة المفاوضات السرية بين الملك عبد الله واليهود أصبحت اليوم معروفة التفاصيل، خصوصاً في كتاب آفي شلايم (المؤامرة). تم أول اجتماع بين الملك عبد الله وجولدا مائير قبل قرار التقسيم بأسبوعين في 1947/11/17، بغرض اقتسام فلسطين بينهما، واتفقا على أن يحتل الملك عبد الله الجزء المخصص للعرب في فلسطين دون محاربة اليهود، وتكفل هو بمحاربة الزعيم الفلسطيني الحاج أمين الحسيني. وقبل دخول القوات العربية فلسطين بأسبوع اجتمع الملك عبد الله مع مائير مرة أخرى وعرض عليها أن تكون فلسطين دولة تحت قيادته، لليهود فيها حكم ذاتي، فرفضت وقالت إن اليهود أقوى مما يتصور وأن قوتهم تزداد كل يوم، وأنه إذا لم يتفق الطرفان فلن يلتزم اليهود بحدود التقسيم في الحرب المتوقعة.

وأمام التزام عربي معلن، عيّن فيه الملك عبد الله قائداً عاماً للقوات العربية (!)، دخلت القوات الأردنية تحت قيادة ضباط بريطانيين الجزء المخصص للعرب فور انتهاء الانتداب، ولم تشتبك مع اليهود إلا في القدس التي تعتبر في قرار التقسيم منطقة منفصلة، وحول الطريق التي تربط بين القدس وتل أبيب ويافا وهي أرض عربية حسب التقسيم. وبفضل شجاعة الجنود العرب ومخالفتهم للأوامر وحمايتهم للمقدسات الإسلامية، تمكن الجيش الأردني من السيطرة على مدينة القدس القديمة في 28/ أيار كما رد هجوماً إسرائيلياً على مشارف القدس. وأرسلت وحدات من الجيش الأردني للدفاع عن اللد والرملة مع قوات المتطوعين هناك، على خط يقارب خط التقسيم وفي داخل المنطقة المخصصة للعرب. وفي 12 يوليو فوجئ أهالي اللد والرملة بانسحاب القوات الأردنية وهجوم اليهود على هاتين المدينتين بقوات كبيرة من الشرق والشمال (تقع تل أبيب في الغرب)، وعند سقوط المدينتين أصدر إسحاق رابين أمره بطرد الأهالي الذي يبلغ عددهم 60.000، وبدأ موكب بشري هائل من النساء والأطفال والشيوخ يزحف في اتجاه الشرق تحت شمس يوليو الحارقة، لا يجدون ماء يشربونه، وإن وجدوا، أطلق عليهم الصهاينة الرصاص ليستمروا في المشي، وعلى جانبي الطريق بدأت تتساقط الأمتعة ثم العجزة ثم الأطفال الذين سقطوا من الإعياء، وعند وصولهم إلى المناطق العربية، هاج الناس وتظاهروا وبصقوا على أفراد الجيش الأردني، وكان من بين الفتيان الذين اكتووا بنار تلك المسيرة أسماء لمعت فيما بعد مثل جورج حبش وخليل الوزير وإسماعيل شموط.

بقيت الجبهة الوسطى التي ترابط فيها القوات الأردنية والعراقية التي تؤازرها هادئة بوجه عام، ولم تحدث معارك هامة حتى نهاية الحرب، عدا معارك القدس، ومحاولة احتلال اليهود جنين التي صدها الجيش العراقي. وكان بإمكان الجيش العراقي أن يقوم بدور فعال حيث أنه جيش قوي مدرب، ولكن عذره الذي أصبح مشهوراً هو مقولة (ماكو أوامر) أي لا توجد أوامر، ولولا الشجاعة الفردية لبعض الضباط العرب من الأردنيين والعراقيين، لكانت أجزاء كبيرة من الضفة الغربية قد سقطت. ومن هؤلاء الضباط عبد الله التل (الذي دافع عن القدس ثم لجأ إلى مصر)، وعبد الكريم قاسم الذي قاد انقلاباُ في العراق ضد الملك الهاشمي بعد ذلك بعشر سنوات.

الجبهة السورية واللبنانية:

كان موقف سوريا نحو فلسطين واضحاً وثابتاً، فهي لأسباب قومية واستراتيجية لم تقبل احتلالاً يهودياً لأي جزء من فلسطين، ولكن قدراتها العسكرية كانت محدودة. وفي الأسابيع الأولى من الحرب، تمكنت من احتلال بعض المستعمرات جنوب بحيرة طبرية، ثم ارتدت إلى شمال البحيرة وتمكنت من احتلال مستعمرة مشمار هايردن.

أما القوات اللبنانية فتمكنت من احتلال قرية المالكية، إلا أنه في آخر أكتوبر، بعد اختراق خطوط النقب في الجنوب، عادت القوات الإسرائيلية إلى الشمال فاستولت على جميع مناطق الجليل واحتلت 14 قرية في لبنان نفسها، وتمكنت إسرائيل بذلك من احتلال شمال فلسطين. وانسحبت كافة القوات السورية واللبنانية وما تبقى من جيش الإنقاذ، ولم تبق أرض فلسطينية إلا منطقة الحمة جنوب شرق طبرية تحت حماية القوات السورية، وكان من بين الضباط السوريين الذي صار لهم شأن فيما بعد سامي الحناوي وحسنى الزعيم وأديب الشيشكلي (الأخير كان من جيش الإنقاذ).

وهكذا ما أن انتهى عام 1948، حتى أصبحت إسرائيل مسيطرة على 78% من مساحة فلسطين، أي حوالي 14 ضعفاً للأراضي اليهودية في عهد الانتداب، وأصبح أهالي 530 مدينة وقرية لاجئين في مصر والأردن وسوريا ولبنان وما تبقى من فلسطين، وتجاوز عددهم آنذاك 805.000 وأصبح عددهم اليوم خمسة ملايين، ولا يزالون في أماكن اللجوء.

الهدنة:

بينما كان بن جوريون يعد العدة لاحتلال النقب وهزيمة الجيش المصري، وصله خبر أن الملك فاروق على استعداد لعمل صلح مع إسرائيل، وذلك عن طريق وسيط هو كمال رياض من البلاط الملكي الذي قابل الياهو ساسون في باريس في 1948/9/21، ومع أن غالبية المسؤولين اليهود رحبوا بذلك إلا أن بن جوريون رفض هذا العرض وكتم الخبر على الوزارة. ولما تم له ما أراد واحتلت القوات الإسرائيلية بئر السبع والعوجة على الحدود المصرية وتراجعت عن احتلال العريش، أصبح مستعداً لاتفاقية الهدنة. في هذه الفترة تسلم رسالة أخرى نقلها ساسون من كمال رياض تقول إن مصر مستعدة لتوقيع اتفاقية الهدنة بشرط تطبيق مشروع التقسيم، أي إعادة بئر السبع والقطاع الساحلي من اسدود إلى رفح إلى العرب، وأن مصر لن تتدخل إذا قامت حرب بين إسرائيل ودولة عربية أخرى. كان هذا رداً على الأردن التي لم تتدخل عندما تعرضت القوات المصرية منفردة لهجوم إسرائيلي حاسم. ولم تنجح الجهود المصرية أثناء المفاوضات الرسمية في زحزحة إسرائيل عن موقفها برفض المطالب المصرية، ووقعت اتفاقية الهدنة في 1949/2/24 باعتبار خط الهدنة هو الخط الذي وقفت عنده القوات في ذلك التاريخ، وبموجبها انتقلت بئر السبع (التي لم يعلن عن سقوطها رسمياً في مصر) والمجدل إلى حكم إسرائيل. لكن النقب الجنوبي وهو مثلث قاعدته خط أفقي يمر بجنوب بئر السبع وعسلوج ورأسه أم رشرش (إيلات) بقي تحت السيطرة العربية نظرياً.

عندما خرجت مصر من الساحة، كثف الملك عبد الله جهوده السرية للوصول إلى اتفاق مع اليهود، بمباركة من بريطانيا، وكانت سياسة بريطانيا تؤيد ضم الجزء العربي (الأوسط) من فلسطين المعروف الآن بالضفة الغربية - إلى شرق الأردن، أي عدم قيام دولة فلسطينية مستقلة، وتسعى إلى المصالحة بين شرق الأردن ومصر بعد القطيعة الناتجة عن عدم تدخل الملك عبد الله أثناء هجوم اليهود على مصر وعدم الثقة به لاتصالاته السرية باليهود.

وكان غرض المصالحة أن تتفق الأردن ومصر على اقتسام جنوب النقب بينهما لأن بريطانيا تحتاج إلى استمرار الاتصال بين شرق الأردن ومصر لأغراضها الاستراتيجية.

وفي البرقيات المتبادلة بين بريطانيا وسفرائها في الفترة ما بين يناير ومارس 1949، تبدو الجهود البريطانية الحثيثة نحو المصالحة ناجحة إلى حد تبادل الرسائل الودية بين خشبة باشا وتوفيق باشا أبو الهدى، كما أن التنافر الذي كان قائماً بين القوات المصرية التي بقيت بعد حصار الفالوجة في الخليل وبيت لحم والتي التف حولها الأهالي منددين بسلوك الملك عبد الله وبين القوات الأردنية تحت قيادة الضباط الإنجليز، انتهى بانسحاب القوات المصرية نهائياً من الضفة الغربية.

وبينما كانت هذه الجهود مستمرة قامت إسرائيل بإرسال طابورين، أحدهما يمر في وسط النقب بقيادة رابين الذي عاد لتوه من رودس بعد توقيع اتفاقية الهدنة مع مصر!، والثاني في محاذاة وادي عربة، وذلك لاحتلال ما تبقى من جنوب فلسطين حتى أم الرشراش.

يقول عوزي ناركيس إنه عندما وصلت قواته إلى راس النقب (الذي يقع في أرض مصرية)، فاجأ الشاويش المرابط في نقطة الحدود النائية وطلب منه الإذن بعبور النقطة ليصل إلى أم رشرش، ولم يصدق هذا أن اليهود وصلوا إلى هذه النقطة، فحاول الاتصال بالعريش (ليأخذ الإذن)، فوضع ناركيس يده على التليفون وقال لا داعي، واستمر الطابور في تقدمه إلى أم رشرش على خليج العقبة ورفع العلم الإسرائيلي عليها (سميت فيما بعد إيلات) في 9 مارس 1949. وهكذا احتلت إسرائيل 7000 كم2 دون أن تطلق رصاصة واحدة، وفي نقض واضح لاتفاقية الهدنة التي سبق توقيعها مع مصر قبل ذلك بأسبوعين. أما الطابور الثاني المحاذي لشرق الأردن، فقد انسحبت القوات الأردنية الموجودة في طريقه بناء على أوامر الضباط الإنجليز، وعندما أرسل الخبر إلى جلوب باشا مع طلب لتعزيزات عسكرية، قال إنه مشغول لأنه يحضر مسرحية.

هناك حدث آخر لا يقل إثارة موجعة عن ذلك. بينما كانت المفاوضات الرسمية بين إسرائيل والأردن جارية في رودس، كان الملك عبد الله يقوم بمفاوضات موازية سرية مع اليهود، وعندما طلب من إسرائيل موافقتها على ضم الضفة الغربية إليه بما في ذلك الجزء الشمالي منها الذي كان يحتله الجيش العراقي، وافقت بشرط إجلاء القوات العراقية، والتخلي عن قطاع كبير مساحته 400 كم2 وعدد سكانه 12.000 نسمة محاذ للخط الإسرائيلي. وعندما أبلغ هذا التنازل برقياً إلى الفريق الأردني في رودس أصيب بالذهول، ولم يكن أقل ذهولاً منه سكان تلك المناطق الفلسطينية في المثلث الصغير الذي كانت تسمع (صرخاتهم وصيحاتهم ولعناتهم) على المتسبب في نقلهم بين يوم وليلة إلى الاحتلال الإسرائيلي. ووقعت الاتفاقية مع الأردن في 3 إبريل 1949، ووقعت لبنان اتفاقية الهدنة مع إسرائيل في 23 مارس 1949 بانسحاب إسرائيل إلى الحدود الدولية، وآخر من وقعت هي سوريا في 20 يوليو 1949 وبقيت تحت سيطرتها قضمة صغيرة من أرض فلسطين.

داود الإسرائيلي مقابل جوليات العربي:

عاشت الدعاية الإسرائيلية عقوداً وهي تغذي الغرب بخرافة ذلك الشعب الصغير الأعزل الذي هزم بعزيمته وإرادته سبعة جيوش للعرب المتوحشين الذين يريدون إلقاءه في البحر من حيث جاء، لكن الحقيقة كانت معروفة للدول العظمى آنذاك، ولإسرائيل بالطبع، ولعدد قليل من القادة العرب. الحقيقة هي أنه قبل دخول القوات العربية فلسطين، كانت القوات اليهودية تعد 56.000 جندي مقابل 2500 متطوع من الأهاليو 3155 من قوات جيش الإنقاذ التي لم يكن بينهما أي تنسيق، وتنقصها الكفاءة والسلاح والتدريب.

أما القوات العربية التي دخلت فلسطين بعد نهاية الانتداب فهي كالتالي:

القوات الأردنية 4500 جندي بقيادة ضباط إنجليز، القوات العراقية بدأت بـ 2500 جندي زاد عددها فيما بعد لكنها بقيت في مواقع دفاعية بحجة أنه (ماكو أوامر)، القوات اللبنانية بدأت بـ 700 وانتهت بألف، ولم تنجح حتى في الدفاع عن قرى لبنانية احتلت. والقوات السورية (حوالي 2000) كان تأثيرها العسكري محدوداً ولم تنجح إلا في الاحتفاظ بقطعة أرض فلسطينية صغيرة. أما القوات المصرية فبدأت بـ 2800، ثم وصل عددها إلى 28.500 بالإضافة إلى متطوعين سعوديين (1109) وسودانيين (1.675) وفلسطينيين (4410). وليست هناك فائدة عملية من جمع تلك الأرقام عربياً، لأنه لم يكن بينهما أي تنسيق، وحتى في الجيش الواحد، كان سوء الاتصالات كفيلاً بعدم معرفة قطاع ما يعمله القطاع الآخر من الجيش.

كيف إذن يمكن مقارنة ذلك بعدد قوات جيش الدفاع الإسرائيلي، الذي أصبح اسمه هكذا بعد إعلان الدولة، رغم أنه لم يقم بعملية دفاع واحدة إذا كانت كل عملياته هجومية، التي بلغ عددها 74.450 في أغسطس 1948، ثم 99.122 في أكتوبر قبل الهجوم على الجبهة المصري، وأخيراً 121.00 قبل توقيع الهدنة. كان التفوق العددي لقوات إسرائيل واضحاً بلا شك، وقد زاد هذا التفوق أحياناً بنسبة 4 يهود إلى عربي واحد في المعركة الواحدة، بسبب تركيز القوات الإسرائيلية على كل جبهة على حدة، وكفاءة اتصالاتها، وعدم تدخل الجبهات العربية الأخرى عند مهاجمة إحداها.

بعد خمسين سنة يصدر كتاب للمؤرخ العسكري الإسرائيلي (أميتزور إيلان Amitzur Ilan) الذي قال إن معدل الانخراط في الجيش الإسرائيلي بالنسبة لعدد السكان يوازي أثناء الحرب العالمية الثانية في بريطانيا 7 ملايين جندي بريطاني وفي أمريكا 22 مليون جندي أمريكي، ثم يؤكد قائلاً (أنه لم تكن هناك أبداً فترة في حرب فلسطين عانت فيها إسرائيل من قلتها العددية أمام القوات العربية التي حاربتها)، ويشير أيضاً إلى أنه لم تكن عند إسرائيل ضائقة مالية حقيقية لشراء الأسلحة (عدا تأخر بعض الدفعات) بل إنه كان هناك فائض مالي يزيد على الحاجة، إذ وصلت المبالغ التي جمعت لذلك إلى 134 مليون دولار مما أغرى بعض اليهود بسرقة بعض هذه الأموال. قارن هذا بثلاثة ملايين دولار خصصتها الجامعة العربية لفلسطين ولم تصرف.

وبالمقارنة مع الدول العربية، فإن شرق الأردن والعراق تعرضتا لأزمة مالية بسبب دخول الحرب، بينما لم تتمكن سوريا ومصر من الحصول على ما يلزم من مواد الحرب رغم أن وضعهما الاقتصادي كان أفضل من غيره.

ما هو إذن الدور الذي لعبه وجود السلاح من عدمه في تحديد مصير الحرب؟ أصدرت أمريكا قراراً مبكراً قبل الحرب (في 1947/12/14) بحظر تصدير الأسلحة، حتى لو سبق شراؤها، إلى فلسطين وجيرانها، بناء على مبدأ الحياد، وبدأ تنفيذ الأمر في 1948/4/15، أي أثناء الهجوم الإسرائيلي الأول على فلسطين. ونزل هذا الخبر كالصاعقة على الهاجانا التي كانت قد رتبت أوامر شراء الأسلحة، وتنتظر شحنها إلى فلسطين عند خروج القوات البريطانية، ولم يعترض العرب كثيراً على حظر الأسلحة، لأن بريطانيا أقنعتهم بأن هذا يضر الصهاينة أساساً، وفي الواقع أن العكس صحيح تماماً وأن المتضررين هم العرب فقط، لماذا؟

قامت إسرائيل بعدة خطوات لمجابهة هذا الموقف، الخطوة الأولى بدأت بتنفيذ خطة سرية لتهريب الأسلحة من أمريكا نفسها إلى فلسطين. والثانية: ضاعفت من كفاءة مصانعها السرية في فلسطين، والثالثة: تعقبت شحنات الأسلحة العربية في أوروبا وأفشلت بعضها أو أغرقته أو حولته إليها.

بالنسبة للخطوة الأولى، جند بن جوريون رجال الأعمال والطلاب والعسكريين اليهود في أمريكا في شبكة لتهريب الأسلحة تحت غطاء آلات زراعية وحديد خردة، وأنشئت لهذا الغرض عدة شركات وهمية، وحصيلة هذه الخطة أسلحة طلبت في النصف الأول من 1948 وصلت في النصف الثاني منه وشملت طائرات قاذفة ونقل مقاتلة وخفيفة، ودبابات وعربات مصفحة وسفن وذخائر متنوعة، وقام بدور كبير في التهريب تيدي كوليك (الذي أصبح فيما بعد رئيس بلدية القدس الغربية).

أما الخطوة الثانية، فقد قام الصهاينة عام 1947 باستيراد كميات كبيرة من المعدات التي تصلح لتصنيع الأسلحة من أمريكا، مما مكنها من تجهيز جيش بأكمله، خصوصاً بالأسلحة الصغيرة مثل الرشاشات ومدافع الهاون ومدافع مضادة للدبابات (بيات) وقنابل يدوية وجوية ومتفجرات، وقامت هذه المصانع بإصلاح الأسلحة الثقيلة للمدفعية والدبابات، ثم تطور إنتاجها إلى تصفيح العربات المدنية وتصنيع ناقلات الجنود المصفحة.

والخطوة الثالثة في تعقب الشحنات العربية وإفشالها، كانت تعتمد أساساً على شبكة جواسيس اليهود في أوربا ومعرفتهم ببلادها معرفة تامة وإمكانية تنقلهم فيها كمواطنين، عكس العرب الذين كانوا غرباء فيها. وقد أنشأت مصر شركة إيطالية مصرية يديرها عبد اللطيف أبو رجيله اشترت أسلحة صغيرة وذخائر وقطع مدفعية. وفي أغسطس 1948، اشترت 24 طائرة من طراز (Macchi) زادت بعد ذلك إلى 36، لكن هذه الطائرات لم تصل قبل نوفمبر عند انتهاء أكبر العمليات العسكرية، وعند استعمالها في ديسمبر اسقط 3 منها ودمر بعضها على الأرض، نظراً لضعف الأداء وقلة التدريب.

وهناك قصة أخرى تعنيني مباشرة، لأنها قصة سقوط مسقط رأسي (معين أبو ستة) في يد اليهود. بعد نجاح إسرائيل في اختراق الدفاعات المصرية واحتلال بئر السبع ومناطق واسعة من الجنوب، حاولت اختراق قطاع غزة وعزله عن مصر، فقامت بهجوم على تل الفارعة وتل جمة والشيخ نوران وكلها محيطة بمعين أبو ستة، والتي كانت تحميها قوات الحدود المصرية، واحتلتها في عملية عساف في 5 ديسمبر 1948. تصدى لها اللواء صادق باشا، وأرسل أول 16 دبابة من وحدة جديدة من دبابات (لوكست: الجراد) مع قوات مشاة نقلت من عسلوج على عجل طوال الليل ووصلت إلى الموقع منهكة ولا تعرف تضاريسه. قسمت الدبابات إلى طابورين، قاد الطابور الأيمن بعد استشهاد قائده ضابط صغير اسمه كمال حسن علي، لكن هذه الدبابات كانت تتحرك بصعوبة وبطء ولم تستعمل مدافعها بكفاءة. كما أن قوات المشاة كانت تتحرك ببطء خلف الدبابات حتى خلفت وراءها فاصلاً كبيراً بينهما. ولم يكن بين القوات اتصال بسبب عدم ربط الوحدات لاسلكياً وعدم وجود ما يكفي من البطاريات الكهربائية. وانتهت المعركة باستشهاد أكثر من 100 جندي مصري وإصابة عدد كبير من الدبابات، واستولت إسرائيل على 9 منها، واحتلت المنطقة بالكامل. وكان موضوع ظهور هذه الدبابات مفاجأة من نوع مختلف بالنسبة لكل طرف. بالنسبة للجانب المصري جاء في (وثائق حرب فلسطين) الذي أصدرته وزارة الحربية بناء على أمر جمال عبد الناصر لاستقصاء أسباب الهزيمة: (ظهور الدبابات اللوكست في المعركة لم يكن مفاجأة للعدو، فقد ظهرت في استعراض بمدينة القاهرة، وكان العدو مستعداً لها). أما كمال حسن علي فذكر في مذكراته أن هذه الدبابات إنجليزية من مخلفات الحرب العالمية الثانية أرسلت بها انجلترا إلى مصر، وأنه لم يكن لديه سوى أسبوع للتعرف على هذه الدبابات، وذكر كيف دخلت الدبابات المعركة ولم يذكر كيف خرجت منها. الآن يذكر لنا المؤرخ العسكري الإسرائيلي إيلان أن هذه أول مرة تلاحظ فيها إسرائيل وجود هذه الدبابات لدى مصر، فأثارت ضجة لدى لندن وواشنطن وبدأ التحقيق في الموضوع الذي بيّن في النهاية أن هذه الدبابات أمريكية صنعت لبريطانيا في الحرب العالمية الثانية لتكون محمولة جواً، وقد اشترت (شركة الدلتا للتجارة) التي تتعامل بالحديد الخردة هذه الدبابات بعد موافقة الأمريكان على أنها غير صالحة الفعالية (neutralized). ودخلت هذه الدبابات الورش المصرية في يوليه، ولكن لم يكن إصلاحها مجدياً، فلم تكن مدافعها تطلق القذائف وإذا أطلقتها لا تكون جيدة التصويب، ودفعت القيادة بهذه الدبابات إلى الميدان عسى أن تكون نافعة، فلم تكن.

مثال آخر، لدىّ بعض أوراق جميل مردم بك سلمتها لي المرحومة السيدة سلمى ابنته وبينها تقرير رفعه حسنى الزعيم القائد العام للجيش إلى رئيس مجلس الوزراء السوري تحت رقم 1139/4س ص (التاريخ حوالي سبتمبر 1948) يعرض فيها شراء 50 دبابة منتقاة من كمية خردة في قبرص بأسعار عالية، والتسليم بعد شهور. ويعترف الزعيم بأن هذه الدبابات غير صالحة ولكن يمكن استعمالها ناقلة للذخيرة والجنود(!)، وهي بدون مدافع ولكن (وجودها يؤثر إيجابياً على معنويات جنودنا ولو كانت بدون أسلحة نظراً لضخامتها). ويعجب المرء كيف لا تكون الهزيمة إذا كان قائد الجيش يفكر بهذا الأسلوب، (اتهم حسني الزعيم بالفساد وأطيح به بعد الانقلاب الذي قاده في سوريا في 1949/3/30 وخلال حكمه وقعت سوريا اتفاقية الهدنة في 1949/7/20، وعرض حسني الزعيم الصلح على إسرائيل واستعداده لتوطين اللاجئين في سوريا).

ولدىّ صورة من محضر التحقيق المؤرخ في 1948/10/5 مع المقدم فؤاد مردم بك، أثناء سجنه في السجن العسكري في المزة، دمشق. وكان قد أرسل لشراء أسلحة من إيطاليا واختفت بعد أن دفع ثمنها. يقول فؤاد أنه بتاريخ 1948/8/19 تعاقد مع الوكالة البحرية (مانارا) في إيطاليا على شحن 7890 بندقية على المركب اجيرو التي تغادر إيطاليا في 20/8 وتصل الإسكندرية في 28/8. وهذه البنادق هي ما تم إنقاذه من شحنة أسلحة سابقة دفع ثمنها بالكامل وشحنت على الباخرة لينو التي غرقت في البحر في إبريل الماضي لسبب مجهول، ولكن لم تصل الشحنة التي تم إنقاذها على الإطلاق. وحقيقة الأمر أن اليهود هم الذي أغرقوا الباخرة الأولى لينو، وتابعوا عملية انتشال ما أمكن منها، وعندما أبحرت ارجيروا، اعترضتها سفينة تحمل رجالاً يلبسون زياً عسكرياً سورياً وقالوا أن المركب في خطر وأن لديهم أوامر من فؤاد مردم بحمايتها، وبعد قليل ظهرت مراكب إسرائيلية نقلت الحمولة إليها، وصدر الحكم بالإعدام على فؤاد مردم بتهمة الخيانة والتعامل مع عميلة إسرائيلية جميلة، ولكن سمح له بعد ذلك بمغادرة سوريا.

ولقد ثارت في مصر ضجة بسبب فضيحة الأسلحة الفاسدة وما صاحبها من الرشاوى والعمولات والإهمال في إصدار شهادات الفحص السليمة، ورغم أن معظم هذه الاتهامات صحيح، إلا أنه، كما يؤكد إبراهيم شكيب، لم يكن لها تأثير يذكر على نتيجة حرب فلسطين، إذ لم ينقل من هذه الأسلحة إلى فلسطين إلا أقل القليل وعند انتهاء العمليات العسكرية.

حاولت بريطانيا التأثير في مجرى الحرب على محورين، الأول سياسي بالتأثير والإيحاء والضغوط على الحكومات العربية، التي استجابت لذلك بطرق متفاوتة حسب علاقتها مع بريطانيا، والثاني عسكري، وكان أكبر تأثيراً بكثير، بمنح أو منع الذخيرة للقوات العربية. كانت تشد الخيط أو ترخيه لتوجه مجرى الأحداث مستعملة الحظر على توريد الأسلحة وسيلة لذلك، والسجلات البريطانية تحفل بالشواهد على ذلك.

في ربيع 1948 طلبت مصر من بريطانيا أسلحة تشمل طائرات وعربات مدرعة وذخيرة فرفض طلبها، لكن مصر تمكنت من الحصول على بعض الذخيرة من مستودعات القنال. وقبيل الحرب شحنت بريطانيا ذخيرة تقدر بـ 500 طن وتكفي لـ 30 يوم قتال إلى شرق الأردن، ونقلت الذخيرة على مركبين وصل أحدهما إلى العقبة بسلام والثاني (رمسيس) اعترضته مصر وحولت حمولته إلى مستودعاتها في العريش. وعند استئناف القتال في يوليه، كتب بيفن إلى كيركبرايد في عمان أنه لا يستطيع أمداه بالذخيرة. وعندما ثارت الجماهير على انسحاب الأردن من اللد والرملة وتشريد أهلها، استدعى الملك عبد الله جلوب باشا أمام وزرائه وواجهه بهذه الفاجعة، فاعتذر جلوب بأنه ليس لديه ذخيرة لأكثر من 10 أيام قتال. وعندما أوصى العسكريون البريطانيون بعد الانتصارات اليهودية بتقوية الجيش الأردني لمواجهة إسرائيل في الميدان، على الأقل عند خرق إسرائيل للهدنة، رفض بيفن أيضاً، مما حدا بالقيادة العسكرية البريطانية إلى اقتراح أن تضرب بريطانيا إسرائيل مباشرة لمنعها من التوغل في النقب الذي تعده بريطانيا ليكون جسراً لها بين الأردن ومصر، كونه أيضاً مطابقاً لمشروع برنادوت في بقاء النقب عربياً، ولكن هذا الاقتراح رفض أيضاً، واستغلت إسرائيل تفوقها العسكري وحسمت الأمر باحتلال كل تلك المناطق بما فيها النقب وثبتتها في اتفاقيات الهدنة. وهكذا فإن دور بريطانيا أثناء الحرب لم يكن سلبياً تجاه العرب فقط، ولم يكن فاشلاً في تنفيذ سياسة بريطانيا نفسها فحسب، بل أعطى الفرصة لإسرائيل للتفوق على العرب عسكرياً وتنفيذ أغراضها دون مقاومة تذكر.

اللاجئون:

ماذا كانت الحصيلة النهائية لنكبة فلسطين بعد هذه الحرب المأساوية؟ احتلت إسرائيل 530 مدينة وقرية فلسطينية مساحة أرضها 18.643 كيلو متر مربع وهي تساوي 92% من مساحة إسرائيل، وشردت 85% من سكان تلك الديار الذين بلغ عددهم 805.000 آنذاك واصبح عددهم اليوم حوالي 5 ملايين، ولجأ هؤلاء إلى سوريا ولبنان في الشمال، وإلى الضفة الغربية والأردن (ومرة ثانية في العام 1967) في اتجاه الشرق، وإلى غزة ومصر في اتجاه الجنوب، حيث يصل عدد سكان قطاع غزة اليوم إلى 1.250.000 نسمة.

بدأت قوافل اللاجئين الذين طردوا من ديارهم تهيم على وجوهها في العراء، كما نشهد اليوم على التلفزيون في كسوفا، في شهر إبريل بعد مذبحة دير ياسين وطرد أهالي يافا، لكن هذه الفاجعة لم تنتشر أخبارها على نطاق واسع. نجد ذكراً لهذا النزوح في سجلات الصليب الأحمر (التي فتحت هذا العام بعد مرور 50 عاماً) ونجد إشارة إلى ذلك في محادثة بين وزير الخارجية المصري والسفير البريطاني عن وصول مهاجرين إلى مصر (وغالب هؤلاء كانوا من يافا، وكثير منهم له أصول مصرية، وصلوا بالسيارة عن طريق غزة، أو بالمركب من يافا إلى بور سعيد).

لكن العرب والعالم لم يدرك مدى حجم وأهمية مشكلة اللاجئين إلا بعد 5 شهور من النزوح الكثيف. لماذا نزحوا ولماذا هذا التعتيم الإعلامي على وجودهم؟

عند خروج القوات البريطانية وإعلان دولة إسرائيل في 15/5/48، كانت إسرائيل قد طردت 52% من اللاجئين من 213 مدينة وقرية، وطردت أثناء الحرب 42% من اللاجئين من 264 مدينة وقرية، وطردت 6% منهم من 54 مدينة وقرية بعد توقيع اتفاقيات الهدنة(!).

وكما تخبرنا الدراسة التي قمنا بها على الأبحاث الإسرائيلية التي نشرت حديثاً، فإن 89% من القرى قد طرد أهلها بسبب عدوان إسرائيلي مباشر (وليس بسبب ما تدعيه إسرائيل في الغرب أن الحكومات العربية طلبت منهم الخروج من ديارهم). و10% من القرى هجرها أهلها بسبب الحرب النفسية اليهودية (الوعيد والتهديد)و 1% من القرى تركها أهلها بقرار من المختار.

هذا الخروج من الديار كان دموياً للغاية، مذابح رهيبة، بلغ عدد المسجل منها 35 مذبحة، أشهرها دير ياسين وأكبرها الدوايمة (500 شخص). بعض القرى تعرضت لمذبحة مرتين (سعسع) وبعضها حُرق أهلها أحياء (الطيرة/ حيفا). كانت هذه المذابح ذات غرض واضح وهو طرد الأهالي، إذ تحيط القوات الإسرائيلية بالقرية من ثلاث جهات وتترك الرابعة مفتوحة، ثم تقتل الأهالي وتحرقهم، وتترك فئة قليلة منهم لتخرج مذعورة وتنشر القصة المرعبة في القرى المجاورة، ولذلك تعرض الجليل لأكبر عدد من المذابح (25) لأن أغلبيته سكان عرب رفضوا المغادرة، ولا يزال يمثل اليوم أكبر تجمع عربي في إسرائيل.

ولم يعترف العرب بوجود هذه الكارثة إعلامياً إلا بعد خمسة شهور، خوفاً من إثارة مشاعر الشعب العربي وبيان أبعاد الهزيمة، ففي 30/7/1948 كونت الجامعة العربية لجنة اللاجئين اجتمعت في عاليه، ولم يعرف ماذا حققت، وتزامن هذا مع تقارير الكونت برنادوت إلى الأمم المتحدة عن عظم الكارثة التي لحقت بالشعب الفلسطيني وإصراره على عودتهم إلى ديارهم، وهو الأمر الذي أدى إلى اغتياله على يد عصابة شتيرن الإرهابية (ومنها شامير الذي أصبح رئيس وزراء إسرائيل فيما بعد) في 17/9/1948. لكنه قبل ذلك أصدر تقريره الأخير الذي تبنته الأمم المتحدة وأصدرت بموجبه القرار الشهير رقم 194 القاضي بعودة اللاجئين، وأكدت عليه كل عام منذ 1948. لقد كان طرد شعب بأكمله من دياره زلزالاً كبيراً، لا تزال آثاره ظاهرة حتى اليوم.

وبالطبع لم يصب هذا الزلزال فلسطين فحسب بل وصلت آثاره إلى كل البلاد العربية المحيطة، فاغتيل الملك عبد الله في 1951، ورياض الصلح في لبنان وأطيح بالملك فاروق عام 1952، وتعرضت سوريا لانقلابات عديدة، وأطيح بالعرش الهاشمي في العراق عام 1958، وفي الحروب التي تلت (1956، 1967، 1969، 1973، 1982) والاضطرابات والغارات والمناوشات خلال الخمسين عاماً، دفع كل عربي في محيط فلسطين ثمناً لهزيمة 1948، ولا يزال الثمن يدفع، ولا يزال المستقبل أبعد ما يمكن عن الوضوح.

الدروس المستقاة:

من السهل أن نقول اليوم كم كان الثمن لسوء التدبير والإهمال والتخاذل الذي عشناه عام 1948 رهيباً وكارثياً، لكن من الضروري أن نسأل أنفسنا: ما الذي تعلمناه من هذه النكبة؟ وهل أدت هذه التجربة إلى تغيير أحوالنا بدرجة كافية لمنع تكرار مثل هذه الكارثة بل وإزالة آثارها؟ الجواب على السؤال الثاني: لا بالقطع. لكن هذا موضوع آخر، أما الجواب على السؤال الأول: فهو أسهل نسبياً اعتماداً على وقائع الماضي، نستطيع اليوم استخلاص النتائج الآتية:

أولاً: لم يكن المجتمع الفلسطيني منظماً بطريقة فعالة، كانت قيادته تقليدية، ورغم أن الحاج أمين الحسيني كان قائداً فلسطينياً مخلصاً بكل المقاييس، إلا أنه لم يتمتع بالقدرة التنظيمية، وتفرق القيادة خلال الحرب وتركيز بعضها على مصالح سياسية خاصة أضعف تلك القيادة. ولكن يجب ألا ننسى أن السياسة البريطانية التعسفية بإعدام من كان يملك مسدساً خلال 30 عاماً من عهد الانتداب منعت المجتمع الفلسطيني من التدريب وحيازة الأسلحة، بينما سمحت بريطانيا لليهود بإنشاء فرق مدربة ومصانع سلاح. إن المقاومة الباسلة التي أبداها أفراد الشعب هي النقطة المضيئة البارزة في هذا التاريخ.

ثانياً: لم يكن لدى الدول العربية استعداد عسكري أو سياسي للحرب، وكان واضحاً لها منذ البداية (ولإسرائيل وأمريكا وبريطانيا بالطبع) أن الموقف محسوم سلفاً، لكنها لم تستطع مواجهة شعوبها التي كانت، ولا تزال، صادقة التعبير. كان هاجس الزعماء العرب كلهم، سواء من تآمر أو تخاذل أو عجز، ثورة الشعب وغليانه إذا لم تبادر حكوماتهم إلى اتخاذ المواقف الوطنية، ولذلك كانوا يصرحون علناً بما يرضي الناس، ويقومون سراً بأعمال أخرى أو يتركون للحوادث نفسها أن تقرر المصير حتى يكون ذلك مبرراً لقبول الأمر الواقع، وكانوا على حق في خوفهم من رد فعل الشعب، إذا نظرنا إلى ما صار من اغتيالات وانقلابات بعد النكبة.

ثالثاً: كانت للدول العربية مواقف ومصالح متناقضة، إذ بينما كانت تُسفك دماء بعضها، كان البعض الآخر يتآمر مع اليهود لتحقيق مصالح شخصية، ولذلك كان من السهل على إسرائيل والدول الكبرى آنذاك تقديم الطعم لهذا أو ذاك، واستغلال التناقض بينها، لتنفيذ أغراضها.

رابعاً: كان المجتمع العربي في وضع حضاري متدن، أمام قوات أوروبية حضارية منظمة، احتلت أرضه غصباً. كان هذا واضحاً في التقارير العسكرية اليومية، وفي كيفية اتخاذ المبادرات عند تغير الأحداث، وفي التنظيم المتحرك الفعال، وفي التصنيع واستيعاب السلاح، وفي التعامل مع الأمم المتحدة، وحتى في التعامل التجاري مع الغرب. حاول العرب تغطية هذه الفجوة باللجوء إلى استنهاض الهمم (وهذا صحيح) والإدعاء بالانتصارات الوهمية (وهذا خطأ).

وبمقارنة هذه النقاط الأربع مع وضعنا اليوم لست أجد فرقاً كبيراً بين الأمس واليوم وإن كانت قد تغيرت طبيعته. لكن الفرق الرئيس هو في وعي الشعب العربي وإدراكه ومساهمته في مجرى الأحداث، كان هذا، ولا يزال، هو الذخر الحقيقي لقوة الأمة العربية.

لم أذكر في هذا العرض (المؤامرات) الصهيونية والغربية ولا التحيز ضد العرب والإسلام، لأن هذا من طبائع الأشياء. كل أرض ستحتل إذا لم تجد من يدافع عنها، وكل حق سيضيع ما لم يطالب صاحبه به، وتنكمش الأرض والحقوق إلى الحد الذي يستطيع صاحبه المحافظة عليه، ولذلك فإنه حري بالدول العربية أن تعبئ طاقاتها البشرية والاقتصادية والمعنوية للدفاع عن حقوقها. هذا هو الخيار الوحيد الموجود أمام الأمة العربية وخصوصاً أمام الشعب الفلسطيني، والفجوة بين القوي والضعيف تزداد ولا تنقص، ولن يتمكن أحد من المحافظة على حق إلا إذا استحقه، وهذا مقياس القدرة وليس مقياس العدل. ويكفي أن ننظر إلى ما كان اليهود عليه في بداية القرن العشرين وفي نهايته لندرك ما يمكن عمله بالموارد القليلة المستغلة، التي هي دائماً أفضل من الموارد الكبيرة غير المستغلة. أما استجداء الحقوق والمسكنة والالتجاء إلى عطف القوي، فلا يخلق إلا أمة من الشحاذين.