المصدر: www.felesteen.ps/details/13684/.htm

د.أبو ستّة: الأوطان لا تُباع ومبدأ التعويض تابعٌ لحق "العودة" لا بديلٌ عنه (فلسطين)

عقارب الساعة اقتربت من الخامسة والنصف.. وموعدي مع المؤرخ وصاحب أطلس فلسطين وعرّاب حقّ العودة وراهبُها الدكتور سلمان أبو ستّة بعدَ حين.. رفعتُ سمّاعة الهاتف أنتظر رداً منه حيث هو الآن في الكويت.. وكأيّ لقاءٍ صحفي، كان لا بدّ أن أُظهِر أمامه أنني أعرف تماماً مع من أتحدّث.. عرّفتُه بنفسي وقرأتُ على مسامِعِه قائمة التوصيفات التي ذكرتها (أعلاه).. ليهولني ردّه..

"كلا كلا... أنا "اللاجئ" –وشدّد على اللفظ- سلمان أبو ستة، وأود في البداية أن أصحح معلومتك بأنني تاريخي، أنا لستُ مؤرخا وإن كنت أغترف من التاريخ اغترافا حينما احتاج إليه، ولستُ جغرافيا ولكنني نَحَتُّ خريطة فلسطين في قلبي مذ أن استطعتُ حمل القلم، ولستُ اقتصاديا وإن كنت أسعى للبحث عما يرفع شأن الاقتصاد الفلسطيني والعربي، ولستُ رجل قانون، وإن نبشت الكتب بحثا عما أتسلح به لأنتزع حقي وحق آبائي وأجدادي، لست شيئا من ذاك أو غيره، أنا صاحب قضية، وإذا كان صاحب الحاجة أرعن كما يقال، فإن صاحب القضية مجنون" انتهى كلامه..

لحظات صمت رهيب، أيقنت بعدها أنني أمام شخصية فذّة، وقلتُ أُحاوِرُ نفسي:"إذا كانت بداية حديثنا عاصفة إلى هذه الدرجة، يتوجب عليكَ يا حازِم أن تكون أكثرَ حذراً فيما تطرحه بعد ذاك"..

مهندِسٌ ضليعٌ في التاريخ؟!!!
"عرَّاب حق العودة"و "راهب العودة" تلك بعض النعوت التي استحقها د. سلمان أبو ستة المولود في العام 1937 في مدينة بئر السبع المحتلة، لينتقل بعد ذلك إلى مصر حيث أنهى دراسته الثانوية في القاهرة بامتياز ويحصل على البكالوريوس في الهندسة المدنية من جامعة القاهرة وعلى درجة الدكتوراة في الهندسة المدنية من جامعة لندن، لتكون أولى المفاجآت - بالنسبة لي على الأقل- بأنه يحمل الدكتوراة في الهندسة وليس في التاريخ كما كنت أتوقع..

د. أبو ستة أعدّ أكثر من ثلاثمائة بحث ومقال وأصدر أربعة كتب عن اللاجئين بالعربية والإنجليزية وصمم ثلاثة أطالس موسوعية تتضمن معلومات عن فلسطين التاريخية وخرائط تضم كل قرى ومدن فلسطين، وُزِّع منها أكثر من مليون نسخة باللغتين العربية والإنجليزية.

سؤال لطالما دار في خاطري، وجهته له بحذر، "ما فائدة أن نقوم بكل هذا الجهد في وقت ينحاز فيه ميزان القوة نحو الاحتلال بشكل صارخ؟"، ضحك قليلا قبل أن يجيب "ما ينبغي أن نسلم بهذا الأمر إذا أن أردنا نسير على نظرية جنون صاحب القضية التي حدثتك عنها آنفاً، بل الواجب علينا أن نسعى لتغيير ذلك الميزان".

حيرتي ازدادت مع تلك الإجابة، فهل يظن أنه يملك أطنان الذخائر والأسلحة أو أنه يحتكم على ملياراتٍ من الأموال ليتحدث بهذه البساطة عن تغيير ميزان القوة؟ لكن إجابة د. أبو ستة لم تكن لتتركني فريسة التساؤلات المتسارعة:"أن يكون الشعب الفلسطيني متنوراً بحقه، عارفاً بتفاصيل القضية التي يناضل من اجلها منذ أمد بعيد، فإن من شأن ذلك أن يبقي القضية حية ويدفع أبناءها لمواصلة جهدهم وجهادهم، فالتغيير يا ولدي سنة كونية، فلن يبقى القوي قويا إلى الأبد، ولن يستمر الضعيف في ضعفه إلى الأبد".

ثمّ أردف يسألُني:"أنظر إلى واقع القضية الفلسطينية اليوم، هل هو واقعها قبل عشرين عاماً مضت؟"، فأجبته:"بالطبع لا، فعشرات الفتية الفلسطينيين حينما يُعَرِّفون عن أنفسهم يشرعون في ذِكر قُراهم قبل ذِكر أسماء آبائهم وأجدادهم الذين أُجبروا قسرا على ترك وطنهم".

وليس من نافلة القول التذكير بأن د. أبو ستة جاب العالم طولا وعرضا، من "رفح" وحتى "سان فرانسيسكو" معرّفاً بالحق الفلسطيني، لا يألو جهدا في حشد المناصرين للقضية الفلسطينية.

سؤال آخر ألقيته بذات الدرجة من الحذر، "ألا يمكن أن نبني الدولة ومن ثم يرجع اللاجئون إليها؟"، فيجيب بصوت ملؤه الثقة: "حق عودة اللاجئين الفلسطينيين مُقَدَّمٌ على أي شيء آخر، فإذا لم يعد اللاجئون، فلمن سنبني الدولة؟".

لا نبيع الوطن..
ولم يخطر ببالي أبداً حينما سألتُه:"وماذا بالنسبة لتعويض اللاجئين؟"، أن يردّ بنبرةٍ قوّيةٍ قريبةٍ إلى الغضب الممزوج بالاستياء: "الأوطان لا تباع والتعويض ليس ثمناً للوطن لكنه تعويض عن الضرر والمعاناة، أما الأرض فتبقى ملكاً دائماً لصاحبها والشعب الفلسطيني، والتعويض تابع لحق العودة وليس بديلا عنه".

وبشيء من التفصيل يتابع: "مبدأ التعويض يقوم على القانون الدولي الذي يلزم الدولة التي تنتهك حقوق الملكية أو حقوق الأفراد الأخرى بإرجاع الحال إلى ما كان عليه قبل ارتكاب تلك الأعمال غير الشرعية، وعلى تلك الدولة أن تزيل كل الآثار الناتجة عن ذلك، وإعادتها إلى الوضع الذي كانت عليه، أو يحتمل أنها كانت عليه، وإذا استحال ذلك فإن للمتضرر الحق في التعويض المادي عن ذلك بقيمة تساوي إصلاح الضرر أو إرجاع الحال كما كان عليه".

وثيقة مُبهرة ودليلٌ دامغ!
أطلس فلسطين يمثل لابو ستة مشروع العمر، فهو تتويجٌ لجهودٍ استغرقت أكثر من 20 عاما من البحث الأكاديمي والسياسي، ليشكل بذلك إضافة نوعية للمكتبة العالمية المتعلقة بجغرافية فلسطين وتاريخها في ظل غياب المراجع الفلسطينية وهيمنة المصادر الإسرائيلية في الغرب والعالم.

ويفصل في شرح محتويات الكتاب الموسوعة:"يحتوي على خرائط حيوية ومهمة جدا تم تجميعها من بعض أراشيف الدول الغربية كألمانيا وفرنسا وبريطانيا، لندحض بذلك مقولة "بن غوريون" التي زعم فيها أن فلسطين لم تكن موجودة على الخارطة ولم يكن هنالك شعب فلسطيني".

ويغطي الأطلس "فلسطين" جغرافياً من رأس الناقورة شمالا وحتى أم الرشراش (ايلات) جنوبا، ومن رفح إلى أريحا، مقسما تاريخها إلى ثلاثة أقسام، مرحلة الانتداب البريطاني والنكبة بتفاصيلها وما حدث للاجئين وتشردهم في بلاد العالم ثم ما حدث للأراضي الفلسطينية في 18 عاما تلت اغتصاب فلسطين.

الوثائق الموجودة في الأطلس وصفت بأنها أكبر كمية حتى الآن صدرت عن "فلسطين" في أي مرجع على الإطلاق حيث تحوي معلومات عن ألف وستمائة مدينة وقرية ومعلومات عن 16 ألف معلم تاريخي مدني وحضاري وفيها معلومات عن 26 ألف اسم مكان في فلسطين.

وحتى لا تنطفئ شمعة الأمل التي لا تزال تغمر فؤاد كل فلسطيني بحنين يزداد كل يوم ويكبر مع حامله كل لحظة وحتى يتعزز الرابط الشعوري برابط آخر محسوس يقرب المساحات ويختصر الزمن الذي يستعرض كل فصول الحكاية الفلسطينية، فكان كتابه المجلد "طريق العودة".

الوطن.. المهجّرون.. والجدار
بل وزادنا بيتا من "شِعر" التاريخ الفلسطيني ليكشف في كتابه " طريق العودة" عن أن 90% من القرى التي دمرها الاحتلال سنة 1948 وما بعدها لا تزال خالية من السكان حتى يومنا الحالي مما يجعل إمكانية عودة أهلها الأصليين إليها أمرا ممكنا عدا كونه حقا قانونيا وأخلاقيا.

ويشكل " كتاب العودة" دليلا للمدن والقرى المهجّرة والحالية والأماكن المقدسة في فلسطين بالعربية والإنجليزية والعبرية، بعد أن استنفذ من جهد د. أبو ستة الكثير وأخذ من عمره أكثر ولكنه رأى النور على أي حال.

ولست ادري حينما كان يحدثني في تلك اللحظة لماذا مر بخاطري تلك الحكمة التي مؤداها أن لذة النجاح تنسي المرء عناء الطريق ووعثائه، ولعلنا نرى في قابل الأيام لاجئا يحمل كتاب "طريق العودة" للاستدلال على بيت جده في قريته المهجرة.. نعم ربما نرى ذلك، من يدري؟!!.

ويحلق بنا د. أبو ستة في فضاءات الكتاب لنَمُرَ بقرى فلسطين وبلداتها وطرقها وأزقّتها، نحوم حول متنزهاتها وبياراتها ومساجدها وكنائسها التي كانت عامرة بأهلها في يوم من الأيام ولنطوف في طرقات الوطن التي قام بإيضاحها بشكل كبير قبل أن ينقلنا إلى الجدار الذي قطّع أوصال فلسطين، ومعه نجد كل ما تمكّن الباحث من جمعه عن الأماكن المقدسة في فلسطين من خرائط وعمليات مسح ودراسات ميدانية.

وبعد كل هذا، هل سيتخلى الشعب الفلسطيني عن حقه؟ سؤال استنكاري، وعلى غير ما تقتضيه قواعد البلاغة يجيب أبو ستة:"الشعب الفلسطيني الذي بلغ تعداده 11 مليون نسمة في البلاد العربية والأجنبية لن يتخلى عن حقه في وطنه".. والنتيجة... لن تكون على المدى البعيد إلا غياب الصهيونية وعودة عروبة فلسطين.

المصدر: صحيفة فلسطين