المصدر: صحيفة فسحه

رحل كامل، وترك لنا كفر برعم

 
كامل يعقوب

 

 

في شباط (فبراير) الماضي، وصلتني منه رسائل عديدة "أرسلت إليك كتابي عن كفر برعم" وأردّ عليه تكرارًا "لمّا يصلني بعد. الكورونا هي العائق، والمكتب مقفل". ولمّا وصلني الكتاب بعد شهور أرسلت إليه "لقد سعدت اليوم باستلام الكتاب، وسأخصّص أيّامًا لقراءته. بارك الله في جهدك. لن ننسى الوطن أبدًا".

كم يحزنني أنّ رسالتي الأخيرة لم تصله؛ لأنّه غادرنا إلى الرفيق الأعلى. ولعلّ كلماتي هذه تصل إلى محبّيه وتلاميذه، فهم كثر. وإن غادرنا كامل بجسمه فإنّ روحه وسجلّ حياته مسطّران في كتابه الموسوعيّ "كفر برعم: نشأة، تجذير واقتلاع"، في 750 صفحة لم تترك شاردة ولا واردة عن كفر برعم، والأعمّ عن الجليل، والأعمّ الأكبر عن فلسطين، إلّا سجّلها في كتابه.

 

وقد أدهش، وقد قضيت سنوات في توثيق فلسطين في أطالس وكتب في جولات حول العالم، كيف أنّه وصل إلى هذا العلم كلّه، وهو لم يغادر كفر برعم إلّا قليلًا في منفاه المجاور لكفر برعم.

 

 

وقد أدهش، وقد قضيت سنوات في توثيق فلسطين في أطالس وكتب في جولات حول العالم، كيف أنّه وصل إلى هذا العلم كلّه، وهو لم يغادر كفر برعم إلّا قليلًا في منفاه المجاور لكفر برعم.

يسجّل لنا كامل سيرة عائلته وعائلات كفر برعم بشكل دقيق. وُلد كامل يوسف جريس بطرس يعقوب عام 1947، في كفر برعم على حدود فلسطين مع لبنان، وتاريخ القرية هو تاريخ حدود فلسطين. ويطالعنا كامل بتفصيل دقيق عن الحدود ونقاط تحديدها على يد الاستعماريّ البريطانيّ نيوكمب، والاستعماريّ الفرنسيّ بوليه عام 1923، وقد وُثّقت في اتّفاقيّة «حسن الجوار» عام 1926.

فهرس الكتاب هو كتاب تاريخ في حدّ ذاته. يصف كامل كفر برعم في كلّ أحوالها: الاسم وجغرافيّة المكان والمناخ والمياه والنباتات والعمران؛ أي مبنى البيت البرعميّ. ويصف كامل آثارها في العصر الكنعانيّ والرومانيّ والبيزنطيّ، والعربيّ الإسلاميّ، والصليبيّ، والمملوكيّ، والعثمانيّ، والانتدابيّ البريطانيّ، والإسرائيليّ. والأخير موضع الألم والوجع الباقي.

كانت قرية كفر برعم عام النكبة في 1948 قرية هادئة وادعة، لم تشترك في أيّ عمليّات عسكريّة، وهي قرية مسيحيّة أهلها غالبًا موارنة. فوجئت القرية بأمر المغادرة في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 1948، بوعد إسرائيليّ مزيّف كالعادة، ومفاده أنّ أهل القرية سيعودون إلى ديارهم بعد أسبوعين. وطبقًا لأسلوب الصهيونيّ المخادع كالمعتاد، لم يحدث هذا حتّى الآن بعد 72 عامًا. ولم يعُد كامل إلى بيته.

 

 

لكنّه انتقم من الغزاة الأوروبّيّين، بأن سجّل كلّ صفحة في تاريخ كفر برعم. لقد استعاد الرواية الإسرائيليّة عن احتلال كفر برعم، وشفعها بمقابلات مع الأهالي الّذين حضروا احتلال القرية، ليس واحدًا منها، بل غير واحد؛ لأنّ كلّ شاهد رأى ما حوله فقط ولم ير ماذا حدث للآخرين. ثمّ واجه الرواية الإسرائيليّة بأن عاد إلى الضابط الإسرائيليّ الّذي دخل القرية، وقارن روايته بالاسم والنصّ والأقوال والتاريخ بشهود القرية، ثمّ أعاد عليه الكرّة مرّة أخرى في وقت آخر. وهكذا قام كامل بتحقيق رواية الغزو الإسرائيليّ بشكل مذهل عن اختلافها في النصّ والزمان والمكان، أو مقارنتها بشهود أهالي القرية.

وهذا - لَعَمْري - درس في تحقيق التاريخ الشفويّ لنكبة فلسطين، وفيه تسقط أسماء لمعت مثل المؤرّخ الصهيونيّ بنى موريس.

ولا يكتفي كامل بتسجيل تاريخ الناس، ولكن أرضهم أيضًا، والأرض هي الوطن.

يحتوي الكتاب على خريطة أراضي كفر برعم وأنواعها، وكذلك خريطة منازل القرية مع أسماء أصحاب بيوتها. وهذه وثيقة مهمّة جدًّا. ونحن في «هيئة أرض فلسطين» نسعى منذ سنوات إلى توثيق قرى فلسطين بالطريقة ذاتها.

ويحتوي الكتاب على ملاحق مهمّة عن الأراضي والأوقاف والتعليم والمعاملات الشخصيّة، في عهد الانتداب وعصر الاحتلال الإسرائيليّ.

ماذا نتعلّم من كتاب كامل؟

 

المحتلّ قد يسرق المادّة، الأرض والثروات وكلّ الأشياء المنقولة، لكنّه لن يستطيع مسح تاريخنا وجغرافيّتنا وهويّتنا من عقولنا ووجداننا.

الدرس الأوّل: أنّ الشعب الفلسطينيّ عميق الجذور في أرضه، وتاريخه موغل في القِدَم، ولا يمكن نزعه منها على أيدي التتار أو الصليبيّين أو المستوطنين من محافر أوروبّا الشرقيّة.

الدرس الثاني: لن ننسى تاريخنا وجغرافيّتنا، قد يسرقها المحتلّ أو يدّعيها ملكه، لكنّنا جيلًا بعد جيل سنبقى حفّاظًا عليها، وإن مات الكبار فالصغار لن ينسوا.

الدرس الثالث: أنّ المحتلّ قد يسرق المادّة، الأرض والثروات وكلّ الأشياء المنقولة، لكنّه لن يستطيع مسح تاريخنا وجغرافيّتنا وهويّتنا من عقولنا ووجداننا.

ونقول في الختام إنّ تاريخ فلسطين مليء بالعابرين الّذين مرّوا وبادوا، وبقيت فلسطين لأهلها.

Screenshot_1.png