القافلة تحط في المحطة قبل الأخيرة وترقب منظر الغروب الرائع تلمع فيه قبة الصخرة كما رآه هنرى سيلور عام 1860

غاب الصليبيون عن القدس سبعمائة عام، ولكنها لم تغب عن ذاكرتهم. بقيت القدس الإسلامية المسيحية تمثل لهم سيطرة المسلمين والشرقيين بصفة عامة على هذه المدينة المقدسة. ورأوا أن القدس والأراضي المقدسة لا تنتمي الى أهلها العرب المسلمين والمسيحين بل الى أوروبا الغربية، التي كان يمثلها دينيآ بابا الفاتيكان. وظل الشعور العنصري المتعصب متأصلآ في وجدان أوروبا الغربية، الى يومنا هذا، خصوصآ بعد أن تقمصت الصهيونية، وهى نتاج أوروبي بحت، هذا الشعور الدفين، وحُولته الى مصلحتها. ومن هنا بدأ الغزو الصليبي الثاني للقدس وللأراضي المقدسة.

بدأ هذا الغزو الجديد تحت ذرائع مختلفة، أولها: زيارات للقساوسة والحجاج الى القدس، وزيارات الرحالة والمستكشفين، وتقارير الجواسيس والمسَاحين. ثانيها: إستغلال ضعف الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر، ومطالبتها بالإنفتاح على العالم الأوروبي، الذي نشأت عنه قنصليات أوروبية في القدس، تحت ذريعة حماية الرعايا العثمانيين، وهم عرب أقحاح، من القهر العثماني، بحجة إنهم من أهل الذمة أي هم عرب مسيحيون من طوائف مختلفة.

في يوم الجمعة 15 يولية 1099 إقتحم (تانكرد النورماندي) المسجد الأقصى أثناء الصلاة، وذبح بالسيف كل المصلين، ونهب الذهب والفضة التي كانت توشي قبة الصخرة. لكن بعد ذلك بمئتى سنة، وبالذات في 15 أغسطس 1291، خرج أخر جندي صليبي من فلسطين، ولم يعد للفرنجة موطئ قدم، ولا دار واحدة في الأرض المقدسة.

لكن بداية القرن التاسع عشر شهدت هجومآ سلميآ من جماعات كبيرة من الزوار المرغوب فيهم وغير المرغوب فيهم. وكانت زياراتهم للأرض المقدسة تمر دائمآ بالقدس، ويطلع عليهم بهائها عند شروق الشمس أو غروبها عندما يعتلون إحدى قمم الجبال المحيطة بها. لم يكونوا يحملون سيوفآ، ولكنهم كانوا يحملون أقلامآ يسجلون فيها الشهادة والمشاهدة، وأوراقآ يرسمون فيها الخرائط التفصيلية، ويحملون في عقولهم فوق ذلك فكرة ثابتة، أن ما فقد بالحروب الصليبية يجب أن يعود إلى أوروبا الإستعمارية.

هنا نجد وصف سيتزن (Seetzen) للأرض المقدسة، ونجد كتاب إدوارد روبنسون(Edward Robinson) بعنوان "الأبحاث الإنجيلية في فلسطين" الذي كان مرجعآ هامآ لمدة قرن من الزمان. أما دليل بديكر (Baedeker) الذي كانت له شهرة ذائعة كدليل سياحي لأماكن كثيرة في العالم، فإن طبعته الخاصة بالقدس عام 1876 بقيت مرجعآ هامآ للرحالة حتى إحتلال اللنبي للقدس عام1917.

لكن النهضة العلمية في أوروبا قد حولت جهودها لإستعادة القدس من النزعة الدينية المتطرفة إلى جهد علمي منظم، عن طريق رسم الخرائط والتنقيب عن الأثار ودراسة العادات والتقاليد لشعب فلسطين، وهذا كله ليس حفاظآ عليها أو تقديرآ لها، ولكنه جزء أساس من جهد عام شامل غرضه الإثبات العلمي على أرض الواقع لقصص التوراة والإنجيل، وما يتبع ذلك من أن أهل هذه البلاد الحقيقيين ليسوا عربآ، وإنما هم يهود، وأن فلسطين هى في الواقع إسرائيل القديمة. لكن أكثر الأعمال قيمة اليوم هى الخرائط التفصيلية التي بقيت لنا، تصور القدس في مراحلها المختلفة. وهى اليوم رغم عنصرية واضعيها تبقى مرجعآ هامآ تاريخيآ للتطور العمراني في القدس منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم.

في عام 1818 أصدر الألماني زيبر (Sieber) خريطة إبتدائية للقدس تبعه كاتروود(Catherwood) عام 1833 وتبعته الأدميرالية البريطانية عام 1844. لكن الهولندي فاند ديفلد(Van de Velde) أصدر خريطة مفصلة لفلسطين تمتد من العريش جنوبآ الى بيروت ودمشق شمالآ، بها تفصيل لمدينة القدس. وتطورت الأمور بسرعة بعد ذلك وجاء تشارلز ولسون (Charles Wilson) البريطاني الى القدس عام 1865 وأصدر أول وأهم وأدق خريطة للقدس بمقياس 1: 10,000 و1: 2,500 لاتزال الى اليوم أدق خريطة للقدس في ذلك القرن. ومن المدهش حقآ أن متصرف القدس عزت باشا ساعد ولسون كثيرآ على القيام بمسح القدس، إعتبارآ لأهمية هذا العمل الهندسي الدقيق. قام ولسون بعملٍ مضنِ وشاق، إذ لم يكتف بمسح وجه الأرض بل نزل إلى عمق الأبار، ومشى في الأنفاق والكهوف الكثيرة تحت القدس ورسمها. وعندما إحتاج الإنتداب البريطاني عام 1937 لعمل خريطة جديدة للقدس، لم يجد أدق من خريطة ولسون، فأضاف عليها القليل مما إستجد.

فتحت هذه الأعمال العلمية شهية إستكشاف القدس مرة أخرى، فإجتمع فريق من القساوسة والمؤرخين والضباط وعلماء اللاهوت والتوراة، وبين هؤلاء عدد كبير من اليهود في مايو 1865، وأنشأوا جمعية أهلية إسمها "صندوق إكتشاف فلسطين" (Palestine Exploration Fund) برئاسة رئيس أساقفة يورك وبرعاية الملكة فيكتوريا. كان الغرض المعلن لهذه الجمعية هو "إستكشاف الأثار والجغرافيا والجيولوجيا والتاريخ الطبيعي لفلسطين". وهو غرض يبدو بريئآ في ظاهره، ولكن المقصود كما تبينه المراسلات اللأحقة هو أين يقع المعبد اليهودي أو "هيكل سليمان"؟ أين مدينة داود؟ هل موقع كنيسة القيامة صحيح؟! وظهر هذا الهدف الحقيقي جليآ، ليس عن طريق المراسلات ومحاضر الإجتماعات لهذه الجمعية فحسب، بل أصبح معلنآ عندما صدر كتاب" إسترجاع القدس" عام 1871 لمؤلفه كلود كوندر(Claude Conder).

أرسل صندوق إكتشاف فلسطين بعثة مساحية الى فلسطين عام1871، وبقيت أربع سنوات. وخلال هذه الفترة أصدرت 26 خريطة مساحية بمقياس 1: 63,000 شملت المنطقة من صور الى غزة، وبينت عليها 12 ألف إسم مدينة وقرية ومكان وأثر ديني مثل الأضرحة والمقامات، وأصدرت أيضآ عشرة مجلدات منها جزء كامل عن القدس، وجزء عن نباتات وحيوانات وطيور فلسطين، وجزء عن تفصيل الأثار التاريخية لكل بقعة في فلسطين، وفهرس جامع بالإنجليزية والعربية لأسماء الأماكن. أُخذت نتائج الدراسة والمساحة الى لندن لتمحيصها ودراستها وتحقيقها، وصدرت طبعتها الأولى عام 1881. يدهش المرء للقيام بهذا العمل الدقيق في القرن التاسع عشر، ويعجب بدقته وشموله، أخذاً في الإعتبار بساطة الأجهزة العلمية في ذلك القرن. وقد بينت دراستنا لهذه الخرائط القديمة حسب الأساليب الفنية الجديدة أن أماكن القرى في تلك الخرائط منحرف عن مكانها الحقيقي بحوالي نصف كيلو متر في إتجاه الشرق، وأن الكثير من تعريب الأسماء خاطئ وهذا متوقع ومقبول. لكن اللافت، في هذا العمل العلمي الكبير إنه لم يعط أدنى إهتمام لأهل فلسطين، الذين عاشوا على أرضها هم وأجدادهم قبل ظهور المسيح وبعده. وعلى الرغم من إسراف هذا العمل في كتابة التفاصيل الدقيقة لكل بقايا عمود روماني ملقى في الرمال، لم يكتب إلا أقل القليل عن أهل البلاد الأحياء، وعن حياتهم، وعن تعلقهم بأرضهم. وبقيت الإشارة لهم مقصورة على الإتصال الهامشي بهم، فمنهم كان الطباخ والمترجم والحارس والمكاري الذي ينقل متاعهم على دوابه.

كان من بين أعضاء فريق المساحة شاب تخرج حديثآ من مدرسة المساحة في وولتش، وكان مغرورآ ومتعجرفآ وممثلآ حقيقيآ لعقلية الإستعمار البريطاني في ذلك الوقت. في يوم السبت 10 يولية 1875 نصب فريق المساحة خيمته قرب مدينة صفد، ونظر الأهالي بإرتياب الى هولاء الفرنجة الذين جأوا ليأخذوا معلومات عن بلادهم. فقذفوهم بالحجارة، وأصاب حجر جبهة هذا الضابط الشاب، فتوقف العمل وقدم الفريق شكوى الى القنصل الإنجليزي في بيروت، الذي بادر بدوره الى الإتصال بالوالي العثماني، وبعد إقناعه برشوة مناسبة أصدر الوالي أمره بإحتجاز جميع أهالي صفد، وفرض غرامة عليهم، وسجن زعماء البلد. هذا الضابط إسمه هوراشيو كتشنر (H. Kitchener) الذي أصبح فيما بعد سردار الجيش المصري، والحاكم الفعلي لمصر، وأخيرآ وزير الحرب البريطاني، ولكنه مات غرقآ في الحرب العالمية الأولى.

إستمرت أبحاث الأثار بحثآ عن دليل يثبت صحة الكتاب المقدس، وبالتالي إثبات وجود يهودي مستمر في فلسطين، ولكن رغم عمليات التنقيب التي إستمرت نصف قرن قبل إحتلال فلسطين، وأثناء الإنتداب البريطاني لمدة ثلاثين سنة، وستين سنة بعد قيام إسرائيل، ومضاعفة عدد علماء الأثار الباحثين، وإنفاق الملايين من الدولارات على هذه الأبحاث، فلم يحدث أن تمكن هولاء من العثور على حجر واحد يؤكد حجم مزاعم اليهود في القدس أو في فلسطين بشكل قاطع.

نعود الى كتشنر هذا، فنجده بعد إنتهاء دوره في البعثة المساحية التي أرسلها صندوق إكتشاف فلسطين، قد عاد عام 1883 للمشاركة في بعثة جيولوجية لإستكشاف وادي عربة وجنوب فلسطين. وعاد من هذه البعثة الى مصر التي إحتلها الإنجليز عام 1882 بدعوى مساندة الخديوي توفيق لإخماد ثورة عرابي باشا وباقي الضباط المصريين الداعين الى حكم وطني في مصر. وبعد ذلك شارك كتشنر في إخماد ثورة المهدي في السودان، وهى ثورة أخرى للوطنيين الأحرار ضد حكم الإستعمار الأجنبي. ولو كان كتشنر حيآ لكان بلا شك أول ضابط بريطاني يحتل فلسطين، ويدخل القدس، ولكن هذا الدور وقع على عاتق اللنبي الذي دخل مدينة القدس ماشيآ على قدميه في ديسمبر 1917.

الكتب التي ظهرت في هذه المرحلة تشى بالنزعة الدينية المتطرفة نحو القدس. فقد إزدهرت كتب تحمل عناوين مثل "أخر الحملات الصليبية"، تمجد إسترجاع القدس الى المسيحية الأوروبية الغربية دون الأخذ بالإعتبار تاريخها العربي الإسلامي والمسيحي.

كان من أعوان كتشنر في مصر شاب أرستقراطي متعلم يتقن اللغات العربية والعبرية والتركية واليونانية، وكانت وظيفته في مصر"سكرتير الأمور الشرقية" بما يوازي مرتبة الوزير المفوض للشئون الوطنية لأهل البلاد وأسمه رونالد ستورز (Ronald Storrs).

تعين رونالد ستورز حاكمآ عسكريآ للقدس في أول عهد الانتداب. وكانت أولوياته تحويل القدس الى مدينة صليبية ويهودية، حسبما يمكن تطبيقه في القرن العشرين. كان مسلحآ بوعد بلفور، وعد من لا يملك لمن لا يستحق، الذي أصبح فيما بعد جزءآ من ميثاق الإنتداب. قام ستورز بإدخال اللغة العبرية لغة رسمية لحكومة فلسطين، وقام بتحويل أسماء الشوارع فيها إلى ما يوافق التراث المسيحي الغربي، وأعلى مقام اليهود في مجلس المدينة، وشجع النزعة الأوروبية على حساب الطابع العربي الإسلامي المسيحي عن طريق إنشاء ماسماه بجمعيات ثقافية، وأدخل في مقررات الدراسة التاريخ الروماني، وتاريخ بريطانيا العظمى، وكذلك اللغة اللاتينية التي فرض على الطلاب العرب تعلمها، وحذف من مناهج الدراسة ما يثبت التاريخ العربي على وجه سليم. وفي نفس الوقت وبمساعدة من الصهيوني هربرت صامويل أول مندوب سام في فلسطين، إعترف بنظام مستقل للتعليم اليهودي دون رقابة على مادته، ووضع صامويل حوالي مئة قانون تسهل إستيلاء اليهود على أراضي فلسطين، وتعترف بالوكالة اليهودية كممثل رسمي لليهود المهاجرين الى فلسطين، وتعترف بمجلسها التشريعي كبرلمان لليهود. كما وافق على نظام بنكي منفصل لليهود، ونواة لوزارات يهودية للأشغال والكهرباء والمياه. ولكن أخطر أعماله هو إنشاء وتدريب وتسليح مليشيا لليهود تحت إسم مضلل هو حراس المستعمرات، الذي أصبح فيما بعد جيش الهاجاناة الذي إحتل فلسطين عام 1948، وطرد أهلها منها فيما عرف بالنكبة.

نعود إلى القرن التاسع عشر. حينما توغل النفوذ الأوروبي في الأرض المقدسة، بحجة حماية الأقليات غير المسلمة (أهل الذمة)، كان أول هذه الإختراقات إنشاء قنصلية روسية لحماية العرب من الطائفة الإرثوذكسية في يافا في الثلث الأول من القرن التاسع عشر. وتبعها بعد ذلك إنشاء القنصلية البروسية عام 1838، وعلى رأسها القنصل النشيط شولتز. أما الكاثوليك فكان لهم وجود سابق بقرن من الزمان في لبنان، حيث تحول كثير من الموارنة إلى الكاثوليكية. وفي عام 1845 وصل إلى القدس القنصل الإنجليزي جيمس فن وزوجته، ولم يجد أمامه من أهل الذمة لكي يحميهم إلا اليهود، وكانوا قلة من الفقراء الذين إستقبلوا المساعدات البريطانية بكل سرور، إلا أنه لم يتحول الكثير منهم إلى المسيحية، التي كانت هدف القنصل الإنجليزي.

ترك هذا القنصل الإنجليزي لنا عدة كتب عن زياراته لكل بقعة في فلسطين، كما تركت لنا زوجته مذكراتها عن حياته في فلسطين كتبتها بعد وفاته. هذا القنصل الإنجليزي كان مسيحيآ متعصبآ، مؤمنآ بالتوراة كسجل تاريخي صادق، ولو عاش اليوم لكان صهيونيآ بالدرجة الأولى. ورغم إنه دُهش في جولاته من خصوبة الأراضي، ونشاط المزارعين الفلسطينيين، وجودة الفواكة والثمار التي زرعوها، وإستقبالهم له بكل حرارة وكرم، إلا إنه وصفهم بألفاظٍ عنصرية، وتمنى، وهو يجول في تلك السهول والتلال الخصبة، أن يختفي هؤلاء الفلسطينيون ويذهبوا إلى الجحيم، ويأتي مكانهم الإسرائيليون القدماء "ليستعيدوا أرض أجدادهم". ولم تكن هذه نزوة عابرة، فلقد أتى إلى فلسطين بعد ذلك جمعيات تبشيرية وجمعيات علمية، لدراسة الأرض المقدسة. أما الجمعيات الدينية فكان أهمها جماعة الهيكل (Templers). وهي جماعة غالبيتها من الألمان. ورغم أنها لم تسكن القدس، إلا أن محور إهتمامها في فلسطين هو القدس. ولقد أنشأت مستعمرات لجماعاتها في سارونا وفلهلمينا وحيفا، يعيش فيها مجتمعهم المغلق، ولا يتعاملون مع أهالي البلاد، إلا بأقل القليل. على أن مشاريعهم الزراعية لم تكن إستيطانية أو سياسية، بل كانت مثل الجمعيات الدينية التي هاجرت إلى أمريكا فإستوطنت في تجمعات خاصة بها مثل الإيمش والمرمون. ومن الجدير بالذكر أن الصهيونيين الأوائل الذين بدأوا الإستيطان في فلسطين، لم يكونوا على دراية بالزراعة والعيش من خيرات الأرض. ولذلك فإنهم قلدوا هذه المستعمرات الألمانية، من حيث تصميمها وطريقة معيشتها، مع الفارق الكبير بالطبع أن هذه المستعمرات الصهيونية تحولت إلى قلاع عسكرية، تخزن السلاح وتدرب الجنود إستعدادآ للإنقضاض على فلسطين.

ولم تكن كل هذه الجمعيات الدينية منعزلة، فقد تأسست في القدس جمعية أمريكية، عرفت بإسم امريكان كولوني (American Colony)، حيث يوجد الفندق المعروف بهذا الأسم اليوم. أصل هذه الجماعة من السويد، توطنوا في شيكاغو بأمريكا، ثم قرروا الهجرة إلى القدس بوصفهم مواطنين أمريكيين. وكانت لهم أثار طيبة، فقد أنشأوا المستوصفات للرعاية الطبية، وساعدوا في إنشاء المدارس، وتركوا لنا إرثآ رائعآ من الصور الفوتوغرافية للحياة في فلسطين. وكذلك قامت جمعية الأصدقاء الأمريكية المعروفة بإسم الكويكرز بإنشاء مدرسة الفرندز في رام الله. وهذه خرجت أجيالآ كثيرة من الشباب والشابات الفلسطينيين، الذين أصبح لهم دور هام في المجتمع. ولا تزال الكويكرز إلى يومنا هذا، تقوم بدور ممتاز في تقديم خدمات للمجتمع الفلسطيني، بل وأكثر من ذلك، تقوم بالدعوة للتضامن مع الشعب الفلسطيني وإسترجاع حقوقه، في ميدان السياسة الأمريكية من مقرها في فيلادلفيا.

ومن أهم الجمعيات العلمية التي بقيت في فلسطين منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى الحرب العالمية الأولى، الجمعية العلمية الألمانية. وجاء في حولياتها تقارير مفصلة عن الأرض المقدسة وأهلها. ونذكر على الأخص المؤلف الضخم الذي كتبه جوستاف دالمان (Gustav Dalman) عن كل صغيرة وكبيرة في حياة القرية الفلسطينية، ومعيشتها وتراثها الشعبي مع صور ورسومات لوسائل الحياة. وفي قرية أرطاس القريبة من القدس عاشت باحثة سويدية، وكتبت كتابآ مفصلآ عن حياة أجيالٍ من هذه القرية، منذ ولادتهم إلى أن تزوجوا مع وصف لتركيبة القرية الإجتماعية.

غير هؤلاء كان هناك مئات من الرحالة والقساوسة والمغامرين والجواسيس وضباط المساحة، الذين هبطوا على تلك المدينة المقدسة، وتركوا أثارآً إيجابية أو سلبية، ولكنها ملأت خيال العالم الغربي بسحر القدس، وعطر تاريخها ورمزها الديني.

لقد عاشت هذه الأفكار التي جلبها هؤلاء كلهم في عقول الأوروبيين، كأنما إستعاضوا عن الإحتلال الصليبي قبل سبعمائة عام بإحتلال فكري عقائدي، ظل ملتصقآ في عقولهم إلى يومنا هذا. وهو الأمر الذي أدى بجماعات أمريكية بروتوستانتية متطرفة، إلى الإنتماء إلى الصهيونية كفكر ديني يجب الإلتزام به. ورغم أن هذه الأفكار الدينية في الذهن الغربي بقيت عاطفة وتراثآ، إلا أن القدس وأهلها وسائر أهل الأرض المقدسة، قد إبتلوا بلوى كبيرةٍ حينما حول الصهاينة هذه الأفكار إلى مبادئ سياسية، وخطط عملية ودعم مالي وعسكري وسياسي لسياسة إسرائيل في الإحتلال والإستيطان وطرد أهل الأرض الشرعيين. وأعظم هذه المصائب بدأت عام 1917، عندما أعطت بريطانيا وعد بلفور وفتحت أبواب فلسطين لإستعمار أوروبي جديد، قتل البشر ودمر الحجر ومحى الذكر. هذه أكبر المحن التي لم يمر على فلسطين مثلها منذ أربعة الأف عام، ولكنها لابد أن تزول.