إن مبدأ الصهيونية الثابت منذ نشأتها إلى اليوم هو الاستيلاء على الأرض والقضاء على أهلها بالقتل أو الطرد أو الاضطهاد. وهذا هو ما يسمي اليوم في القانون الدولي بالتنظيف العرقي. وهو جريمة حرب لا تسقط بالتقادم ويتوجب تطبيق العدالة بالقصاص لجريمة تمت، وإرجاع الشىء إلى أصله قبل الجريمة، أو التعويض إن لم يكن ذلك ممكناً.

ومهما تغيرت المبررات والوسائل على مدي العقود الماضية، لا يزال هذا المبدأ الصهيوني سارياً إلى اليوم.

اثناء الانتداب البريطاني الذي طبق وعد بلفور المشئوم، سنّت حكومة الانتداب القوانين لتسهيل استيلاء المهاجرين اليهود الصهاينة على الارض الفلسطينية وطرد الاهالي الذين كانوا يعيشون عليها. وقد نجحت هذه الخطط في زيادة ملكية الصهاينة في فلسطين بمقدار 3% من مساحتها، من 2% في العهد العثماني إلى 5% في نهاية الانتداب. لكن الخطر الأكبر كان في تدفق المهاجرين اليهود الذين وصل عددهم في نهاية الانتداب إلى 30% من مجموع السكان. وغالب هؤلاء كانوا من حملة السلاح وكثير منهم خدم في الحرب العالمية الثانية. هؤلاء جاءوا إلى فلسطين ليس لغرض اللجوء المستكين كما يدعون، بل لغزو فلسطين واقتلاع أهلها منها.

وهذا يأتي بنا إلى نكبة 1948. لقد نجح الغزو الصهيوني المنظم في الاستيلاء على 78% من أرض فلسطين وطرد أهالي 675 مدينة وقرية، يمثلون أهالي 85% من ذلك الجزء من فلسطين الذي أصبح يسمي "اسرائيل". هؤلاء هم "اللاجئون الفلسطينيون"، عددهم عام 2000 حوالي 5,250,000 موزعون على 600 مخيم وقرية في ما تبقي من فلسطين والبلاد العربية المجاورة، هذا بالاضافة إلى أماكن اللجوء في مدن عربية وأجنبية أخرى.

كانت هذه أكبر جريمة منظمة ومستمرة للتنظيف العرقي في التاريخ الحديث. وخلاف كل جرائم الحرب والفظائع الأخرى التي كانت تبدأ وتنتهي أثناء الحرب المستعرة، استمرت هذه الجريمة في الحدوث بشكل يومي منذ عام 1948 إلى اليوم، وإن بصِور مختلفة، تحت غطاء الحرب المكشوفة أو السلام الساخن، أو الاحتلال، أو المناوشات. ولعل هذا الاستمرار في اقتراف جرائم النكبة لأكثر من نصف قرن، بجانب حجمها الهائل، ما يميزها عن غيرها من الجرائم في التاريخ الانساني. ورغم أن جرائم كثيرة حدثت في التاريخ، إلا أن معظمها أو كلها، عدا النكبة، قد حدثت في التاريخ البعيد غير المسجّل، أو حدثت وانتهت اثناء الحرب المستعرة، أو حدثت وأوقفتها قوي معارضة لهذه الجريمة، أو حدثت بشكل عفوي أو غوغائي أو جماهيري أو غير مخطط له على نطاق واسع.

أما النكبة فهي حدث مستمر، اثناء الحروب وبينها، ولم توقفها القوي الغربية التي أمدتها منذ البداية بالمال والسلاح والتأييد السياسي والمعنوي، بل واستمرت في هذا الاسناد إلى يومنا هذا، وهذا الحدث مخطط له منذ أمد بعيد ولا يزال تنفيذه مستمراً دون هوادة، تحت سمع وبصر العالم الذي يري هذه الجرائم على شاشات التلفزيون وصفحات الجرائد في البلاد التي تسمح بحرية التعبير وعدم الازدواجية في المعايير.

لذلك فإن تاريخ اليهود، وخصوصاً الصهاينة منهم، سيوصم منذ القرن الماضي، ليس كما كان الحال، بدورهم في مقتل المسيح حسب الرواية المسيحية، ولا بما لاقوه من جرائم النازية، بل بدورهم في تدمير الشعب الفلسطيني على أرضه مع سبق الإصرار والاستمرار.

في عام 1967 احتل الصهاينة كل فلسطين واجزاء من مصر وسوريا، وكذلك جنوب لبنان في عام 1982. وبفضل المقاومة اللبنانية، خرجوا من لبنان. وكذلك خرجوا من سيناء مقابل خروج مصر من دول المقاومة وبقاء قوات الأمم المتحدة مكانهم في سيناء. وهم اليوم يأكلون من الضفة الغربية قطعة قطعة، ويحشرون أهلها وراء جدار الفصل العنصري والكانتونات المغلقة.

ومع السيطرة الاسرائيلية شبه الكاملة على الأرض يبقي الضلع الثاني من جريمة التنظيف العرقي، وهو التخلص من الشعب صاحب الأرض. في عام 1948، تخلصت الصهيونية من أصحاب الأرض باقتراف 70 مجزرة في حقهم وطردهم خارج الأراضي المحتلة، وفسروا ذلك للعالم بأن الاهالي غادروا ديارهم مختارين طائعين أو فروا خوفاً من الحرب أو بأوامر من البلاد العربية، وهذا كله بهتان عظيم.

اليوم يريدون طرد الفلسطينيين مما تبقي من ديارهم باختراع مسمي جديد هو "القنبلة الديموغرافية". وهذا المسمي العدواني يعتبر أن وجود الفلسطينيين على أرضهم هو "قنبلة"، وهو تعبير واضح عن السياسة العنصرية الصهيونية. فكيف يكون وجود شعب على أرضه هو "قنبلة" مدمرة، إلا إذا كان غرض هذه السياسة هو في الأصل القضاء على وجود الشعب الفلسطيني، وعدم نجاح هذه السياسة يعتبر "قنبلة" مدمرة للمشروع الصهيوني.

وكما سيتضح فيما بعد، فإنه رغم كل الجهود الصهيونية، لن يتم القضاء على الشعب الفلسطيني، وسيحصل ما تبقي من الفلسطينيين على أرض فلسطين على الأغلبية العددية سواء في فلسطين 1948 (اسرائيل) أو في فلسطين التاريخية بحدودها الانتدابية. والمسألة هي مسألة وقت. وكل الدراسات تتنافس، وتتناقض نتائجها أو تتفق حول المدة الزمنية التي يتم فيها ذلك. ولذلك فإن سعي إسرائيل الدءوب، ومن خلفها مؤيدوها، هو نحو الحصول على اعتراف فلسطيني مكتوب بحق اسرائيل في طرد الشعب الفلسطيني من أرضه لو زاد عدده عن حد معين. وهذا قمة الفاشية العنصرية. وهذه العنصرية تتعدي معني "الأغلبية" البسيطة بمعناها الديموقراطي. فلو كان الفلسطينيون في اسرائيل 10% من السكان، هل يعطي هذا اسرائيل الحق في اضطهادهم أو حرمانهم من حقوقهم؟ أو لوكانوا 20% أو 30% من السكان هل يقل اضطهادهم قليلاً أو يزيد حسب رغبة اسرائيل في التخلص منهم؟ هذه كلها مبادئ عنصرية تجافي القانون الدولي وحقوق الانسان، ويجب أن تنبذ من أصلها، ويجب أن تُكشف أمام المجتمع الدولي، وتستدعي شجبها بالمقاطعة والعقاب والحصار كما حدث في جنوب أفريقيا.

فلنتأمل قليلاً الجدول رقم 1 الذي يبين زيادة عدد السكان في فلسطين أو اجزاء منها من عام 2000 إلى عام 2020. والجدول يبّين تقديرات عام 2000 وهي ارقام فعلية، أما ارقام عام 2020 فهي مأخوذة من تقديرات المخطط الإسرائيلي لعام 2020 1 أو تقديرات أخرى للباحثين.

يبين الجدول أن نسبة الفلسطينيين إلى اليهود وغير العرب في اسرائيل ستزيد من 23% عام 2000 إلى حوالي 40% عام 2020، إذا لم تحدث هجرة يهودية كبيرة، أو إلى 30% إذا حدثت هذه الهجرة.

وفي هذه الفترة سيتضاعف عدد الفلسطينيين 100%، بينما سيزيد عدد اليهود وغير العرب بنسبة 12% دون هجرة، أو 27% في حال أدني هجرة، أو 42% في حال أقصي هجرة. ولو خصمنا من عدد اليهود، عدد الروس غير اليهود الذين تختلف التقديرات في نسبتهم ما بين 40-60 % من الروس المهاجرين وأيضاً عدد العمال الاجانب الذين يصل عددهم إلى حوالي ثلث مليون على الأقل ما يصل مجموعه إلى 750 ألف نسمة، ستكون نسبة الفلسطينيين إلى اليهود المعترف بهم عام 2020 تتراوح بين 45% في حال هجرة يهودية قليلة، إلى 33% في حال هجرة يهودية كبيرة. أي أنه على اسوأ الفروض من ناحية فلسطينية، بزيادة الهجرة اليهودية، لن تقل نسبة الفلسطينيين عن شخص فلسطيني واحد مقابل ثلاثة يهود عام 2020، والنسبة عام 2000 كانت شخص فلسطيني واحد مقابل 4 يهود.

ويقدر يوسف كرباج، المحلل الديموغرافي البارز، أنه عند مرور مائة سنة على خلق اسرائيل (2048) سيكون عدد الفلسطينيين فيها نصف عدد السكان، أي شخص فلسطيني مقابل شخص يهودي، وانه في عام 2025 يمكن أن يكون للفلسطينيين 23 نائباً في الكنسيت من أصل 120 نائباً، لو اتحدوا وصوتوا جميعاً 2. هذا بالطبع عدا عدد الفلسطينيين في باقي فلسطين والشتات.

التنظيف العرقي سياسة مستمرة

العنصرية الصهيونية لا تقبل ببقاء أصحاب الأرض التي احتلتها اسرائيل على تلك الأرض. ولاتقبل بالديموقراطية إذا كانت تعني مساواة اليهودي بالعربي، وتتمسك بنظرية "الطابع اليهودي" لاسرائيل، وهوالطابع الذي ليس له أساس اخلاقياً وقانونياً وفعلياً الحل الاسرائيلي هو إكمال عملية التنظيف العرقي بالتخلص من أصحاب الارض وساكنيها الفلسطينيين.

في مفاوضات طابا الفاشلة، قدم الاسرائيليون اقتراحاً بضم مناطق غنية بها مياه وعليها مستوطنات اسرائيلية في الضفة مقابل التخلي عن صحراء جرداء على الحدود المصرية ليس بها مياه، هي أصلاً اراضٍ احتلتها اسرائيل زيادة عن مشروع التقسيم. وهذا يعني في العرف الاسرائيلي ضمناً أن خط الهدنة (1949)- المعروف خطأ بالخط الأخضر- الذي يفصل بين الضفة وغزة من جهة وفلسطين 1948 من جهة أخرى، هو خط التقسيم الجديد لفلسطين، وأن الاراضي خلف خط الهدنة هي ملك اسرائيلي شرعي خالص. وهذه مقايضة بين أرض فلسطينية محتلة وأخرى مسروقة.

أما طرد الفلسطينيين من أرضهم فقد أطلق عليه لاغراض الدعاية كلمة "الترانسفير" – أي الترحيل – وسيقت له التبريرات المزورة بأمثلة "تبادل السكان" بين الهند وباكستان وبين تركيا واليونان. لكن "الترانسفير" 3 عمود من أعمدة الصهيونية الثابتة بدأ الحديث عنه في الدوائر الصهيونية منذ عام 1937، وطبق على نطاق واسع في فلسطين عام 1948، ولا يزال مستمراً إلى اليوم.

وفي العقد الأخير من القرن العشرين، انتقل الحديث عن الترانسفير من الهمس في الجلسات المغلقة إلى مناقشات علنية بين الاحزاب 4. وفي آخر اجتماع سنوي عقد في هرتزليا في يناير 2006، والذي ضم نخبة من الساسة والجنرالات ورجال الاعمال والاكاديميين، بدت الصورة واضحة تماماً. وتعتبر هذه النخبة أهم من الكنسيت من حيث أن أفكارها هي التي تحدد مسار الحكومة. وقد تلخصت توصياتها فيما يلي 5

استقدام عدد أكبر من المهاجرين اليهود، إلغاء أو تحجيم حقوق المواطنة للفلسطينيين في اسرائيل، "تشجيع" السلطة الوطنية الفلسطينية على قبول تبادل الأراضي، بما في ذلك ضم المناطق العربية في اسرائيل إلى الضفة وضم أهم المستوطنات في الضفة إلى اسرائيل.

وعلى نفس النسق، وافق المجتمعون على خطة شارون بالانسحاب الاحادي من غزة، والتخلص من 1.4 مليون فلسطيني مع بقاء القطاع تحت الاحتلال جواً وبحراً وحول الحدود واستمرار حرية القتل والتدمير فيه دون خسائر من قوات اسرائيل البرية.

أما المحلل الاسرائيلي المشغول بديموغرافية اليهود والعرب، سرجيو ديلا بيرجولا، فقد أبلغ المجتمعين أن المساواة بين عدد الفلسطينيين واليهود في كامل فلسطين سيتحقق في عام 2020 إن لم يتحقق في عام 2010.

أما الديموغرافي المعروف بعنصريته المتطرفة، آرنون صوفر، والمستشار الخاص لشارون، والذي يعزي إليه فكرة إنشاء جدار الفصل العنصري فيقول: إن " التدمير القادم للدولة اليهودية قادم لا محالة مالم تتخذ الاجراءات الحاسمة ضد› خطر ‹ زيادة السكان الفلسطينيين ".

وقد قرر المجتمعون أن خلاص " الدولة اليهودية" يكمن في الاستحواذ على المناطق الرئيسة في الضفة وعلى مصادر المياه وعلى غور الاردن وعلى كامل القدس وما حولها، وحصر الفلسطينيين في عدة كانتونات متباعدة، مفصولة عن قطاع غزة، وليست لها سيادة على ما تحت الأرض وفوقها أو ما بين الكانتونات. وتضمن اسرائيل، أنها بالغارات الجوية والاغتيالات والتدمير، كما هو حاصل في قطاع غزة، أن هذا الكيان، ولو سّمي بدولة، ليست له أي حيثية، وأن سكانه تحت هذه الاحوال البائسة سيجبرون على الرحيل عنه "طوعياً" كما تتمني اسرائيل.

لكن هناك جانب من الخطة، جري ويجري تنفيذه، لم يتم الحديث عنه علناً وربما دون كتابة أيضاً في الملفات السرية.

يلاحظ المراقبون أن هبوطاً مفاجئاً قد حدث في خصوبة نساء الفلسطينيين في اسرائيل، والتي كانت 6 أطفال لكل امرأة في الستينات، فأصبحت أقل من 4 أطفال عام 2001. وهو أمر يعزي عادة إلى ارتفاع مستوي المعيشة وزيادة التعليم، الأمر الذي يدعو غالباً إلى تحديد النسل وتربية عدد قليل من الاطفال بشكل أفضل. لكن هذه الظروف نفسها تساعد على تقليل وفيات الاطفال التي كانت تصل إلى نصف نسبة المواليد في العهد العثماني.

وحيث أن الأسرة الفلسطينية ترحب دائماً بالعائلة الكبيرة، فانه عند نقص وفيات الاطفال بسبب العناية الصحية، لابد أن يزداد صافي النمو الطبيعي، أو على الأقل يبقي كما هو دون انخفاض، فما السبب في الانخفاض إذن؟

يحلل يوسف كرباج ظاهرة مماثلة في الضفة وغزة بشكل موسّع، كالآتي: 6

خلال الانتفاضة الاولي (1987 – 1993)، زادت الخصوبة الفلسطينية في الضفة والقطاع بسبب الزواج المبكر وعدم حرية الانتقال. ولكن هذا لا يفسر كل شىء. فالمرأة الفلسطينية ذات التعليم الاولي (أقل من 6 سنوات) لديها أطفال أكثر من الأمية، بمعدل 7.18 طفل مقابل 6.66 طفل. وخصوبة المرأة ذات التعليم المتوسط والثانونى أقل قليلاً ولكنها لا تزال عالية (6.03 – 6.42)، أما الجامعية فلا تزال خصوبتها عالية (4.09). وهذا يعكس الاتجاه المنطقي، إذ كلما زاد وعي المرأة السياسي في فلسطين، كلما رأت غريزياً ضرورة زيادة عدد الاطفال في الاسرة. وهذا عكس الاتجاه السائد في معظم بلاد العالم، حتي في المجتمعات العربية المشابهة، إذ يتناقص عدد الاطفال في الاسرة مع تزايد تعليم الأبوين.

ولكن حدث ابتداء من عام 1999 إنخفاض حاد في الخصوبة في فلسطين. وفي عام 2000 انخفض معدل الخصوبة بشدة من 6.25 طفلا للمرأة إلى 4.18 "وهي ظاهرة نادرة جداً، وأمر لافت للنظر، ولا سابق له"، كما يقول يوسف كرباج.

ولا يعزي هذا الانخفاض المفاجئ إلى انخفاض عدد الزيجات، خصوصاً في غزة الذي زاد بنسبة 31%، كما أنه لا يعزي أيضاً إلى ازدياد استعمال موانع الحمل، ولا يعزي بالكامل إلى ظروف الانتفاضة وارتفاع عدد القتلي وقلة الأمان وانخفاض المستوي الاقتصادي وما يتبعه من هبوط دخل الفرد الذي يمكن أن يفسر انخفاض الخصوبة في أعوام 2001 – 2003لأن يوسف كرباج يوضح أن هذا الانخفاض قد ظهر قبل الانتفاضة في عام 2000، ولا يجد له تفسيراً علمياً واضحاً.

ما هو السبب إذن؟ من الواضح أن لاسرائيل مصلحة كبري في هذا الانخفاض. فهل دبرته بطريقة ما؟ لقد جاء في التقارير الصحفية حالات إغماء وهستريا جماعية بين طالبات المدارس، وكذلك سقط الكثيرون ضحايا استنشاق الغازات السامة، التي أطلقها الاسرائيليون على المتظاهرين وبعضها غير معروف طبيا. 7 كما جاء في تقارير وزارة الصحة الفلسطينية زيادة حالات الاجهاض والسرطان بشكل غير مسبوق. 8

واستعمال اسرائيل للأسلحة البيولوجية قديم وموثق 9 ولديها الآن أكبر ترسانة من هذه الاسلحة ما بين باريس وطوكيو. واسرائيل لديها الدافع ولديها الوسيلة. فهل أقدمت على جريمة وأد الاطفال الفلسطينيين قبل ولادتهم، كما قامت بذلك بعد ولادتهم؟

الديموغرافية اليهودية

من جهة أخرى تحاول الصهيونية زيادة الخصوبة للنساء اليهوديات بأشكال متعددة. أولا تقدم جهات أهلية يهودية طعاماً وكساء وتمويناً وتأميناً لتكاليف الولادة لكل امرأة يهودية تنجب طفلاً 10. وفي هذا السياق يشجع مليونير يهودي امريكي الشبان والشابات اليهود على زيارة مدفوعة التكاليف إلى اسرائيل في برنامج يسمي "Birthright" (حق المولد)، بغرض التعريف باسرائيل والهجرة إليها.

على أن الاعتقاد بأن خصوبة المرأة اليهودية أقل بكثير من خصوبة المرأة الفلسطينية هو أمر ملتبس تماماً. إذ كما وضح يوسف كرباج 11، تختلف نسبة الخصوبة لدي اليهود اختلافاً كبيراً حيث أنهم ليسوا قوماً متجانسين، بل هم يمثلون خصائص البلاد التي هاجروا منها، خصوصاً في مجموعتين: ذوي الأصل الافريقي الاسيوي وذوي الأصل الاوربي الامريكي. كما أن اليهود المتدينين المتشددين من أكثر المجموعات البشرية توالداً، إذ تبلغ النسبة 7.6 أطفال لكل امرأة في اواخر التسعينات، أي أربعة أضعاف ونصف اليهود العلمانيين الروس (1.7 طفل لكل امرأة)، وهو معدل لا يتجاوزه الإ خصوبة نساء النيجر في أفريقيا. وبالطبع فإن هذا المعدل يفوق خصوبة الفلسطينيات بكثير. وخصوبة المتدينات عالية لاسباب استراتيجية وليست دينية فقط، حيث أن المجموعات المتدينة تتواجد بشكل كبير في المستوطنات. وإذا ما أضيفت الهجرة إلى المستوطنات فإن نسبة نمو اليهود في المستوطنات تفوق النمو الديموغرافي الفلسطيني بشكل واضح. وهو كما يشرح كرباج يذكرنا بسرعة نمو المهاجرين اليهود في فلسطين الانتدابية الذي أدي عام 1948 إلى احتلال معظمها بالقوة العسكرية.

ورغم هذا التنافس الديموغرافي الحاد، فإن نسبة الفلسطينيين ستسود سواء في اسرائيل أو في فلسطين الانتدابية. وكل الدراسات تؤكد ذلك ولكنها تختلف على الفاصل الزمني لذلك.

وكما سبق القول، فإن الحل الاسرائيلي لهذا الوضع هو الابادة الجغرافية، إن لم تتم الابادة الفعلية. وهذا عن طريق الترحيل القسري، أو التهجير بسبب قسوة ظروف المعيشة الذي تمارسه اسرائيل وهو ما يسمي دبلوماسياً " بالهجرة الطوعية" أو عن طريق إعادة تقسيم فلسطين بحيث تأخذ اسرائيل أجود الاراضي ومصادر المياه وتتخلص من السكان الباقين بالخروج من غزة وضم المناطق الفلسطينية في اسرائيل إلى كيان الكانتونات في فلسطين.

ولكي تسّوق اسرائيل هذه الإبادة العنصرية، رفعت شعار "الطابع اليهودي" لاسرائيل، أو عّرفت اسرائيل بانها دولة "ديموقراطية يهودية" وهو تناقض في المعني والمبني. ويكتسب هذا الشعار أحياناً طابعاً انسانياً لدي المضَّللين من الساسة والكتاب في الغرب المتحيز لاسرائيل. وهوخدعة كبري.

والاسباب كثيرة وواضحة. إذ لا يوجد أي معني قانوني أو حتي أخلاقي لدولة "يهودية" في فلسطين، ولا يوجد نص أو تعريف في القانون الدولي لذلك.

كما أن إعلان قيام اسرائيل اعتمد في شرعيته على قرار التقسيم رقم 181 لعام 1947. والامم المتحدة لا يمكن أن تقيم دولة عنصرية دينية أو إثنية. وواضح في قرار التقسيم أن نصف سكان الدولة المقترح تخصيصها لسكنى اليهود في فلسطين هم فلسطينيون، ولذلك نص القرار على حقهم في المساواة في جميع الحقوق السياسية والمدنية، وعليه لا يمكن تسمية اسرائيل بالدولة اليهودية حسب القانون الدولي.

وإذا كان المقصود "بالطابع اليهودي" لاسرائيل هو تجانس اليهود ووحدانية صفاتهم الخلقية والثقافية، فهذا أمر لا يقبله العقل في دولة جاء سكانها من 110 بلاد ويتكلمون 82 لغة.

والقصد الحقيقي من وراء محاولة إسباغ نوع من الشرعية على صفة "الطابع اليهودي" على اسرائيل هو قبول العالم (والعرب والمسلمين أولاً) بقوانينها العنصرية التي تشمل كافة نواحي الحياة تطبقها مؤسسات الدولة بحكم القانون، وليست مجرد تمييز عنصري يمارسه بعض افراد المجتمع خلافاً للقانون. هذه القوانين تمارس العنصرية والابارتهايد ضد كل من هو ليس يهودياً (مع الاختلاف على تعريف صفة اليهودي) في المواطنة والجنسية ودخول البلاد والخروج منها واستملاك الارض واستعمالها والتعليم والخدمات العامة وغير ذلك.

وبانهيار النظام العنصري في جنوب افريقيا، تبقي اسرائيل المكان الوحيد في العالم الذي يمارس أبشع الشرور الانسانية بقوة القانون. ولاشك أنه لن يكتب البقاء على المدي المتوسط والبعيد لمثل هذه الجريمة في حق الانسانية

الحل الفلسطيني

مهما اختلفت الاراء السياسية حول هذا الحل وعن طبيعة الوضع السياسى لفلسطين بعد تطبيقه، فإن الإجماع قائم بين الفلسطينيين والعرب والمسلمين وقطاعات واسعة في العالم، تتزايد كل يوم، على ضرورة استعادة الحقوق التاريخية والشرعية الثابته في فلسطين.

ولسنا في معرض خوض هذه التفاصيل وتياراتها المختلفة، ولكن يكفي أن نبرهن من منظور تخطيطي، جغرافي وديموغرافي، أن حق العودة، وهو الحق الثابت غير القابل للتصرف، وهو الحق الجامع لكل الآراء السياسية، وهو أيضاً الحق الذي يعيد ربط التاريخ الفلسطيني بجغرافيته، ممكن تنفيذه على أرض الواقع.

وبجانب أهمية هذا المنظور كونه مخطط لتحقيق حق العودة، فإنه أيضاً يثبت بطلان الدعاية الصهيونية في الغرب بأن هدف الفلسطينيين من العودة هو القضاء على اليهود المهاجرين إلى فلسطين ورميهم في البحر من حيث جاءوا، وهي صيحة الحرب التي أطلقوها في الغرب لتبرير جرائمهم ضد الفلسطينيين.

تبين من الدراسات السابقة 12 أن حوالي 80% من اليهود في اسرائيل لا يزالوا يعيشون في نفس المناطق اليهودية أثناء الانتداب، وأن اتسعت لتشمل مالايزيد عن 15% من مساحة اسرائيل. أما اليهود الباقون (20%) فيعيشون في مدن فلسطينية أصلاً، ومن بينهم 1.5% فقط هم سكان الكيبوتز والموشاف الذين يستغلون اراضي اللاجئين في 85% من مساحة اسرائيل.

ومن ناحية عملية، لا يعوق عودة اللاجئين إلى ديارهم أي عائق عمراني، ماعدا اتساع مدينة تل ابيب والقدس الغربية. وعلى الأخص، فإن عودة أهالي الجليل اللاجئين في سوريا ولبنان واللواء الجنوبي من فلسطين اللاجئين في غزة، لا تمثل أي عائق، فعدد هؤلاء مجتمعين هو نفس عدد المهاجرين الروس الذين استوعبتهم اسرائيل في التسعينات دون أي ازدحام غير عادي.

وقد قمنا بدراسة ديموغرافية مفصلة لمواطن الفلسطينيين الأصلية في فلسطين وعددهم في كل قرية وأين هم الآن في أي من مناطق وكالة الغوث الخمسة. ثم قمنا بدراسة مماثلة للقري والمدن في اسرائيل اليوم وحددنا أصول سكان كل قرية – في تقسيمات ستة: الفلسطينيون الباقون في ديارهم، اليهود الروس، الاشكناز القدامي، اليهود العرب، سكان الكيبوتز والموشاف، اليهود الجدد والوافدون غير اليهود من عمال وتبشيرين وروس مسيحيين. وهم السكان الذين سيواجههم الفلسطينيون العائدون إلى ديارهم لو نزعت صفة العنصرية عن اسرائيل وآثروا العيش في بلد ديموقراطي يتمتع فيه الفرد بالمساواة القانونية والفعلية. ومن لم يقبل بنزع صفة العنصرية عنه فإنه لا شك لن يطيق البقاء في البلاد.

الشكل رقم 1 يبين خلاصة هذه الدراسة للجليل.

والنتيجة الواضحة أنه يمكن عودة اللاجئين إلى ديارهم دون أي صعوبة، رغم زيادة عدد اليهود حوالى عشر مرات (من 600,000 عام 1948)، وزيادة عدد اللاجئين حوالى 6 مرات (من 900,000 عام 1948). ومن الطبيعي أن يكون هناك ازدحام في المدن المختلطة أو التي كانت عربية صرفة. لكن مشاكل الازدحام والخلاف على الملكية أمر تم استجلاؤه بشكل واسع جداً، خصوصاً بعد تجربة البوسنة والهرسك، وبعد اعتماد الامم المتحدة لمبادئ بنهيرو (Pinheiro Principles) التي تنظم عملية إعادة استملاك الاراضي والممتلكات التي فقدها أهلها بالعنف أو البطش أو الاحتلال العسكري والمصادرة.

الخلاصة

وفي الخلاصة تتبين لنا الحقائق الآتية:

اولاً: رغم محاولات الصهيونية إبادة الشعب الفلسطيني فعلياً أو جغرافياً على مدي نصف قرن، فإنها لم تنجح ابداً، رغم أنها نجحت في الاستيلاء على أرضه ووممتلكاته.

ثانياً: الرهان على أن الشعب الفلسطيني سينسى أو يندثر فشل تماماً، ورغم تهجير حوالى نصف الفلسطينيين إلى خارج فلسطين، فإنهم باقون على جزء من أراضيهم، وسيصبحون أغلبية في فلسطين التاريخية وفي اسرائيل نفسها. والرهان هو على التاريخ الذي سيتم فيه ذلك في المستقبل. لكن اعتبار أغلبية 50% الحد الفاصل أو المؤثر الذي يستعيد الحقوق هو اعتبار مضلل، لان الاقلية النشطة التي تدافع عن حقوقها تستطيع الحصول عليها حتي لو قلت نسبتها عن 50%.

ثالثاً: الهاجس الصهيوني ضد حقيقة النمو الفلسطيني الصاعدة هو هاجس عنصري غير أخلاقي، ولا يختلف عن الأمثلة الكثيرة في التاريخ الذي تحاول فيه فئة إبادة فئة أخرى. ومحاولات الصهيونية في هذا الصدد بالقتل والترهيب والتجويع وإقامة حائط الفصل العنصري ومنع التنقل ومنع التئام شمل العائلات، كل هذه المحاولات حتي لو نجحت، لن تفلح في تهجير أكثر من بضعة آلاف أو بضعة عشرات الآلاف. وستبقي الغلبة للفلسطينيين حتي لو تحقق ذلك في الزمن أبعد.

رابعاً: رغم تحيز الغرب السافر لاسرائيل واستمراره في جرائمه التي اقترفها سايكس وبيكو وبلفور وبن جوريون وشارون، الإ أن العالم لن يستمر في تقبل جرائم اسرائيل ونظامها العنصري، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي تمارس ذلك اليوم.

إن ازدياد الضغوط على اسرائيل، سواء بالصحوة الشعبية، أو بالمقاومة، أو بالمقاطعة، أو بازدياد تأثير الجماعات الأهلية في العالم الداعية إلى حقوق الإنسان ونبذ العنصرية، لا شك ستؤدي إلى انهيار هذا الصرح العنصري الوحيد في العالم اليوم.

لكن المعركة طويلة. والمهم الاستمرار في الدفاع عن الحقوق الثابتة في جميع الجبهات بانتظام وكفاءة وإصرار وعزيمة وتضحية.

وما ضاع حق وراء مطالب.