بعد هبوط موجة الفرح بصمود المفاوض الفلسطيني في كامب دافيد وعدم تنازله، لا يزال القلق يسود الساحة الشعبية للاجئين على مصير حقهم في العودة واحتمال التنازلات في المفاوضات القادمة. وهذا القلق له ما يبرره أخذاً في الاعتبار هول الكارثة فيما لو تم التنازل عن حق العودة في اتفاق نهائي. صحيح أن الموقف الفلسطيني في كامب دافيد كان صلباً فيما يتعلق بالقدس ولكن المتوقع أن تشتد الضغوط الآن أكثر من ذي قبل، وستدخل الدول العربية الساحة إما لدعم هذا الموقف أو لزيادة الضغط بطلب أمريكي، الذي سيشمل مطالبة الدول العربية بدفع جزء من التعويضات وتوطين جزء من اللاجئين لديها.ولذلك فإنه من الضروري الآن تجمع كل قوي الشعب الفلسطيني حول حق العودة وتحويله إلى قوة شعبية سياسية فاعلة.

ومما لاشك فيه أن حق العودة قد عاد إلى الظهور بقوة، بعد خيبة الأمل في أوسلو، كمطالبة شعبية تمتد عبر مناطق الشتات من المخيم إلى كل مدينة عربية أو عاصمة أجنبية، وهذا أشبه بالمد الشعبي الذي كان سائداً في أوائل السبعينات، ولكنه الآن يتحقق على يد جيل آخر. وقد خفّت الآن إلى حد كبير الأصوات المنادية " بالواقعية " كغطاء لإسقاط الحقوق، بل سقطت مصداقية هذه القلة من " المثقفين " التي استمدت رزقها من " صناعة السلام " والتي كانت تروج لتلك الواقعية مقابل أجور مجزية للمقالات والدراسات والأبحاث.

وليس هذا بعجيب، لان حق العودة كان ولا يزال أصل الصراع مع العدو الصهيوني. وهذا الصراع يتلخص في أن هذا العدو يريد الاستحواذ على أرض فلسطين (وقد نجح في ذلك إلى حد كبير) وطرد أهل فلسطين بقوة السلاح وفظاعة المذابح ووسائل القهر والتعذيب، وذلك لاستبدالهم بمهاجرين يهود. هذا ما يطلق عليه اليوم اسم " التنظيف العرقي"، الذي يعتبر من جرائم الحرب وتدينه قوانين حقوق الإنسان.

إن أي علاج لهذا الصراع أو أي عملية سياسية تسعي إلى حله، لا تستند على هذا التعريف، لا يمكن أن تنجح، مهما كانت المسميات والمرغبات. ذلك لان حق الإنسان في أن يعيش في بيته حق أساس يمس الوجدان ويصنع الكينونة الإنسانية، ولهذا فانه مادة من مواد "الميثاق العالمي لحقوق الإنسان"، قبل أن تصوغه القوانين الدولية وقرارات الأمم المتحدة. وأي إنكار لهذا الحق إنما يعني دعوة صاحبه إلى التخلي عن كينونته، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بالشعب الفلسطيني، الذي عاش طوال تاريخه الطويل في ذلك المكان الذي اخترقته جيوش وحكمه أغراب وعاشت على حواشيه قبائل قامت ثم بادت، وبقي هو في غالبيته الساحقة، مهما كان أسمه ولغته وديانته، ملتصقاً بهذا المكان نفسه.

وفي القانون تبقي حرمه الملكية الخاصة مصونة، لا يزيلها احتلال أو إعلان سيادة جديدة، أو اتفاق سياسي من أي نوع، ولا يجوز فيها التنازل أو التمثيل أو النيابة ما دام الأصل موجوداً.

وقرار 194 المشهور هو تجسيد للقانون الدولي وليس اختراعاً له. والقرار المذكور هو ثلاثة في واحد: الأول يدعو إلى عودة اللاجئين، والثاني يدعو إلى إعاشتهم إلى أن يتم ذلك، والثالث يدعو إلى إنشاء " لجنة التوفيق " كآلية لتسهيل عودتهم. وهذا القرار اجتمعت عليه إرادة المجتمع الدولي بشكل لم يسبق له نظير في تاريخ الأمم المتحدة، وتم تأكيده أكثر من 100 مرة خلال 50 سنه.

أمام هذا الحق الساطع، نشطت إسرائيل ومؤيدوها ومن تبعهم من تلاميذ مدرسة الواقعية بنسج شبكة ممتدة من الادعاءات والأساطير والأغاليط لكي تحجب هذا الحق. وللأسف فإن البعض قد ينجرف وراء هذه الخزعبلات، ولا ندري إن كان المفاوضون الفلسطينيون قد احتاطوا لهذا الأمر أم لا، وعلى أي حال نرجو أن يكون لديهم من الخبرة والحصافة ما يكفي للرد على هذه الأقاويل والادعاءات الباطلة.

أولا يقول الإسرائيليون أن القرى دمرت والحدود ضاعت، ويصعب استرجاع الأملاك. هذا غير صحيح إطلاقاً، ويوجد من الخرائط والوثائق ما يكفي لإعادة كل دونم إلى أصله. والتقنية الحديثة كفيلة بمقارنة الخرائط البريطانية مع صور الأقمار الصناعية لتعيد كل قطعة أرض إلى أصلها. وهذه الوثائق كلها موجودة عند "دائرة إسرائيل للأراضي" (وعند غيرها) وبموجبها تؤجر أراضي الفلسطينيين لليهود.

ويقولون أن البلاد ملآنة بالمهاجرين اليهود ولا يوجد مكان لعودة اللاجئين، وهذا كذب صريح. والواقع أن 78% من اليهود يعيشون في 14% من مساحة إسرائيل. (أنظر الخريطة) ويعيش 22% من اليهود في الباقي، ولكن حوالي 19% منهم يعيشون في مدن فلسطينية أصلاً من عكا وصفد إلى بئر السبع وإسدود. ويبقي أقل من 3% هم سكان الكيبوتز الذين يستغلون أرض اللاجئين التي تبلغ 18 مليون دونم. وهؤلاء ثبت فشلهم وتراكمت عليهم الديون وهجروا الكيبوتز إلى المدن. وبذلك سقطت نظرية "اليهودي المزارع الذي عاد إلى أرضه"، بل تأكدت الصفة التقليدية لليهودي الذي يعيش في المدن في مراكز تجمعات يهودية ويشتغل بالمال والتجارة.

ولأن سكان الكيبوتز يتمتعون بامتيازات حكومية غير مسبوقة بصفتهم النخبة، ومنهم ضباط الجيش وأعضاء الكنيست، لذلك أسقطت الحكومة عنهم الديون، ومنحتهم ثلاثة أرباع المياه في إسرائيل بسعر أقل من التكلفة، وأجّرت لهم معظم أراضي اللاجئين بإيجار رمزي. ومع ذلك لم تبلغ مساهمتهم في الناتج المحلي أكثر من 1.8%. بل وأكثر من ذلك ونتيجة لهذا الفشل، سمحت الحكومة لهم بتحويل بعض تلك الأراضي الزراعية إلى أراضي بناء، لكي يتمكن هؤلاء من بناء عمارات سكنية وبيعها، وخصصت لهم 25% من قيمة الأراضي المباعة التي لا يملكونها، ودخل على خزينة حكومة إسرائيل أكثر من مليار دولار سنوياً من حاصل بيع أراضي اللاجئين.

إذن كيف يمكن أن يقبل أحد خرافة أنه لا يوجد متسع في البلاد، بينما يسرح ويمرح في أراضي اللاجئين الذين يتجاوز عددهم 5 مليون حفنة من اليهود لا يتجاوز عددهم 150.000؟

ولقد أثبتت الدراسات الديموغرافية أنه يمكن عودة كل لاجئي لبنان إلى بيوتهم في الجليل، وكل لاجئي غزة إلى بيوتهم في اللواء الجنوبي، دون أن تتأثر الكثافة السكانية لليهود في الوسط بأكثر من 1 - 5 % فقط. ومن مهازل القدر أن المهاجرين الروس الذين استوعبتهم إسرائيل دون ضجة يساوي عددهم عدد اللاجئين في غزة ولبنان مجتمعين. فكيف يمكن أن يقبل الفلسطينيون خرافة أن العودة غير عملية؟

هذا من ناحية. ومن ناحية أخري، فإن عملية الإحلال والاستبدال هذه ليست إلا عملية تنظيف عرقي، يعاقب عليها القانون الدولي، خصوصاً بعد ميثاق روما عام 1998. وتريد إسرائيل ترك الأراضي الفلسطينية فارغة كرصيد استراتيجي لإحضار 10 ملايين يهودي، كما صرح شامير بذلك مراراً في فترة ما بعد أوسلو.

التوطين إذن هو عملية تنظيف عرقي ومن يدعو إلى التوطين، كما تفعل إسرائيل، ومن يقبل به من العرب لأسباب مختلفة، إنما يطبقون سياسة التنظيف العرقي. فهل يدركون ذلك؟ وهل يدركون أن استيطان المستوطنين حتى في الضفة أو غزة يعتبر من جرائم الحرب حسب ميثاق روما، وأنه لو طبق القانون الدولي، لاعتبر هؤلاء المستوطنون مجرمي حرب؟

وهل يدرك من يهمهم الأمر أن خطة التوطين الأخيرة التي وضعتها المحامية اليهودية الأمريكية من أصل روسي دونا آرزت في كتابها "من لاجئين إلى مواطنين"، وتعتبرها الدوائر الأمريكية خطة عمل مقبولة، ما هي إلا خطة تنظيف عرقي. إذ أثبت البحث أنها تقترح نقل 690 ألف لاجئ من غزة إلى الضفة، و140 ألف من الأردن إلى الضفة، ثم نقل 700 ألف آخرين ليصبح مجموع المرحّلين 1.5 مليون لاجئ، ويوطن الباقون حيث هم.

كيف تنقل هذه الملايين؟ هل هم غنم تساق إلى هلاكها صامتة. ألا يذكرنا ذلك بقصة القطارات النازية التي تحمل اليهود إلى هلاكهم؟ والآن يريدون أن يملئوا الطائرات باللاجئين ليوزعوهم على بلاد العالم في أكبر عملية إبادة جغرافية يشهدها التاريخ الحديث. إن من يقترح التوطين أو يوافق عليه، إنما يسعى إلي سفك دماء بريئة ويفتح مجالاً للصراع والاضطراب في المنطقة لا يعلم مداه إلا الله.

ويُذكر التعويض أحياناً كإغراء لقبول التوطين، أو رشوة للدول التي تؤويهم والجهات الأخرى التي تسهل ذلك، بل وللأفراد الذين فقدوا الأمل في حل عادل. وهذا كله وهم.

فالتعويض القانوني حق للاجئ نفسه عن الضرر والخسائر والمعاناة لمدة خمسين سنة، ولا يجوز لأحد أن يتلقاه نيابة عنه، وإلا بقيت مطالبته به قائمة. والتعويض ليس ثمناً للوطن فالوطن لا يباع، بل التعويض مكمل وليس بديلاً للعودة، والأدلة والسوابق القانونية على ذلك ليس لها حصر. أما مطالبات الدول والجهات بالتعويض فلها مجرى قانوني وسياسي آخر، ولكنها قطعاً لن تكون على حساب تعويض اللاجئين أنفسهم. وهناك فرق بين الحق القانوني للأفراد في التعويض الذي لا يسقط، وبين القرارات السياسية التي تحفز أمريكا وأوروبا وغيرها لأن تدفع رشوات سياسية للحفاظ على مصالحها في المنطقة. ولا يجوز الخلط بينهما.

وإذا ما سقطت الحجج الإسرائيلية في أن العودة غير عملية وأن التعويض هو الحل، طلعوا علينا بقصة جديدة هي أن الطابع اليهودي لإسرائيل قد يفسد أو "يتلوث" بوجود العنصر العربي، صاحب الأرض.

ونتساءل ما هو هذا الطابع اليهودي؟ هل هو قانوني، أم اجتماعي، أم ديني، أم ديموغرافي.

إذا كان قانونياً فإن معظم القوانين اليهودية (ومنها قانون العودة اليهودي) هي قوانين عنصرية مخالفة للقانون الدولي. هذا معروف منذ زمن. ولكن من غير المعروف على نطاق واسع أنه منذ أشهر قليلة أصدرت عدة لجان تابعة للأمم المتحدة تقارير بأن مخالفات إسرائيل للقانون الدولي نابعة من قوانينها المحلية، وأنه لكي تكون إسرائيل دولة مقبولة دولياً، فإن قوانينها المحلية يجب أن تتغير. جاء هذا في التقارير الأخيرة للجنة حقوق الإنسان، ولجنة إزالة التفرقة العنصرية ولجنة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، واللجنة المناهضة للتعذيب. وهذا معناه أنه لا الأمم المتحدة ولا الدول التي تقبل بميثاقها وبالقانون الدولي تؤيد هذه القوانين الإسرائيلية العنصرية. فكيف يطلب منا نحن الفلسطينيون أن نقبلها، خصوصا ونحن ضحاياها؟

وإذا كان اجتماعياً، فإننا نتساءل أي مجتمع هذا الذين يخافون عليه؟ هل يصدق أحد أن في إسرائيل مجتمعاً متجانساً يجمع الروسي والأثيوبي، أو العلماني والمتعصب، أو الاشكنازى والسفاردي (المزراحيم)؟ هل تعتبر إسرائيل مجتمعاً متجانساً، إذا كان نصفه يستعمل اللغة العبرية أساساً ويتخاطب فيه الناس باثنين وثلاثين لغة أخرى؟

هذه البروفسورة عتصيونى هاليفي من جامعة بار إيلان التي قضت 30 عاماً في دراسة "الهوية" اليهودية تقول: "نحن لسنا شعباً واحداً، فاللغة مختلفة والمظهر مختلف، وأنماط السلوك مختلفة، والهوية مختلفة". كيف يمكن إذاً أن تكون عودة اللاجئين إلى أرضهم نشازاً في هذا السوق المختلط؟

توزيع السكان في إسرائيل اليوم. يلاحظ أن غالبية اليهود (حوالي 80%) يعيشون في نفس مناطقهم عام 1948. ومعظم الباقين يعيشون في عدة مدن فلسطينية (مبينة بدوائر سوداء حجمها يعكس عدد السكان). تبقي حفنة من اليهود لا تتجاوز نسبتهم 3% يعيشون في الكيبوتز والموشاف ويستغلون أرض وتراث 5 مليون لاجئ التي تزيد مساحتها عن 18 مليون دونم (منطقة c). وهذا يدحض خرافة أنه ليس هناك مكان لعودة اللاجئين وأن العودة غير ممكنة عملياً.

وإذا كان دينياً، فمن الذين يمنع اليهود من ممارسة طقوسهم الدينية؟ ألم يجدوا في العالم الإسلامي المكان الوحيد في العالم الذي مارسوا فيه حياتهم وعباداتهم بسلام؟

وإذا كان ديموغرافياً، بمعنى أن يكون لليهود في إسرائيل دائماً تفوق عددي، فهذا سراب. تقدر نسبة الفلسطينيين في إسرائيل بـ 26% من اليهود، وعددهم في تزايد. وفي أحسن التوقعات اليهودية، وبفرض استمرار الهجرة اليهودية، فإن عدد اليهود سيكون عشرة ملايين عام 2040 - 2050. وهذا في أحسن الأحوال لأن عدد اليهود في العالم يتناقص بسبب الاندماج والزواج المختلط، وليس لدي اليهود الذين ينعمون بالعيش والنفوذ في أمريكا وأوروبا رغبة في الهجرة إلا لفئة صغيرة من العنصريين والمتعصبين دينياً. وفي نفس الوقت فإنه في نفس الفترة أي بعد 40 سنة سيكون عدد الفلسطينيين في إسرائيل عشرة ملايين أيضا، فكيف يمكن لليهود أن يكونوا غالبية السكان في هذه الحال؟ وهل سيعمدون إلى طرد الفلسطينيين في نكبة أخري لتتحقق لهم الغالبية العددية. واليوم في فلسطين من النهر إلى البحر، يبلغ عدد الفلسطينيين 47% من مجموع السكان، واليهود 53%، وما هي إلا سنوات أربع ويكون عددهم متساوياً مع اليهود. فكيف وأين يهرب اليهود إلي جيتو جديدة يقيمون حولها "حائطاً حديدياً"، كما قال جابوتنسكي، لكي ينعموا بالنقاء اليهودي؟ هذه أهداف لن تتحقق مع مرور الزمن. وإنما يشتري اليهود بعض الوقت لمطاردة أهداف سرابية، بينما تستمر معاناة الفلسطينيين في الشتات.

هذه إذن هي الحجج الصهيونية لمنع عودة اللاجئين والإدعاء بأنها غير عملية وغير ممكنة. ومن المؤسف أن حفنة من الفلسطينيين لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة بعضهم في فلسطين وبعضهم في أمريكا يرددون هذا الكلام من باب "الواقعية" أو "محبة السلام"، ولست أعلم أن أياً منهم قد كلف نفسه عناء القيام ببحث جدي في هذا الموضوع قبل أن يتبناه.

ثم يقولون أيضا أن "الكثير" من اللاجئين لا يرغبون في العودة حتى لو أتيحت لهم. ولست أعلم أن أحداً أحصي هذا " الكثير" بأي درجة من المصداقية. لكن كل استفتاء تم بيّن أن النسبة الساحقة أكدت على الرغبة في العودة إلي نفس البيت الذي طرد أهله منه، بما في ذلك اللاجئون الذين يعيشون في إسرائيل، وفي مناطق السلطة نفسها، رغم كونهم يعيشون في فلسطين، لأن العودة تعنى العودة إلى البيت نفسه. أما عن مشاعر اللاجئين في الشتات فحدث ولا تسل، ويكفي أن تتأمل صور الواقفين على سلك الحدود اللبنانية ينظرون بشوق إلى الوطن.

لكن كل هؤلاء الذين يتحدثون عن عدم الرغبة في العودة إنما ينظرون إلى حق العودة كما لو كان تأشيرة سياحية تنتهي صلاحياتها بعد فترة. وهذه مغالطة صريحة. فحق العودة حق ثابت لا يسقط مع الزمن ولصاحبه الحق في ممارسته في أي وقت شاء. ولذلك فان هذه الاستفتاءات عن الرغبة في العودة عديمة القيمة.

ثم يقولون أيضا أن التسوية قد تتم بالاعتراف الرمزي بحق العودة وعودة بعض العائلات في برنامج لم الشمل وتبادل بعض الأراضي. ونحن لا نحتاج إلي إسرائيل لتعتذر في كلمات عن حصيلة نصف قرن من الجرائم. إن ذكراها منحوتة في صدر كل فلسطيني. إن التوبة الإسرائيلية الحقيقية تتمثل فقط في إعادة الحق إلى أهله وتصحيح الخطأ، وليس في برنامج دعائي رخيص.

إما برنامج لم الشمل فهو وصفة قديمة فاشلة بدأها شاريت عام 1949. بناء على اقتراح آرزت تبدي إسرائيل استعداداً لعودة 70.000 شخص، أي 1.5 % من عدد اللاجئين فقط وعدد هؤلاء عام 1948 كان 8000 فقط. وشروط إسرائيل لعودتهم تعجيزية لدرجة أن هذا المشروع ليست له قيمة عملية.

ويقولون إن قد يتم تبادل بعض الأراضي، فتضم بعض المستوطنات إلي إسرائيل ويتوسع قطاع غزة في المقابل. إن كان هذا في سياق الاعتراف بالدولة الفلسطينية وحدودها، فإن المشكلة ليست في حدود دولة فلسطين فحدودها مقررة تاريخياً، وإنما في حدود إسرائيل نفسها التي لم تعلن لنفسها عن حدود. فالأرض اليهودية تساوي 5.5% من مساحة فلسطين عام 1948، ثم أعلنت إسرائيل دولتها في 1948/5/14 على أرض جديدة احتلتها فأصبحت مساحتها 14%، واحتلت في نهاية حرب 48 ما مساحته 78% من فلسطين واحتلت بعد ذلك 100% عام 1967. والآن تفاوض لتعطي 5% من فلسطين (هي منطقة أ في الضفة) إلى أصحاب الأرض الذين كانوا يملكون 95%، وتطلب من هؤلاء الإقرار بأن اليهود الذين كانوا يملكون 5% لهم الحق الآن في 95% من فلسطين. إن هذا حقاً من سخريات القدر.

إذن فالصراع الآن على مدي اتساع حدود إسرائيل. فإن كان المرجع هو قرار 242 (الذي يزيل آثار عدوان 1967)، فالحدود هي خط هدنة 1949 وهي واضحة ومعروفة. وإن كان هذا غير مقبول لإسرائيل، فإن المرجع الدولي الذي لا يزال قائماً هو قرار التقسيم 181، ومعناه أن على إسرائيل أن تنسحب من 24% من مساحة فلسطين (6.300 كم2) بالإضافة إلى كل الضفة الغربية وغزة.

ولسنا نفهم إذن العبرة من تبادل الأراضي هذا. هل هو اقتراح بتقسيم جديد لفلسطين؟ وعلى أي أساس يتم هذا؟ إن كان على أساس إلغاء القانون الدولي واعتماد القوة العسكرية لإسرائيل والتحالف الأمريكي معها كأساس للمفاوضات، فهذا غير دائم وغير قانوني، ولا يصنع السلام وليس إلا وصفة لاستمرار الصراع التاريخي.

ولئلا يتفاءل أحد بموضوع التبادل هذا، نذكر هؤلاء بأن إسرائيل تقترح أن كل كيلومتر واحد تعيده إسرائيل من فلسطين المحتلة عام 1948 تأخذ مقابله 3 كم مربعة من الضفة، وتقترح أن تكون الضفة المستعادة في "خالوتسا". لقد عجز شيلوك، شخصية شكسبير الروائية، أن يبتدع وقاحة أكثر من هذه.

وقد لا يدرك البعض أن "خالوتسا" هذه هي تحريف إسرائيلي لكلمة "الخلصة" وهي مكان في جنوب فلسطين، غرب بئر السبع. وهذه المنطقة كثبان رملية جرداء لا طير فيها ولا ماء، وقد أشارت إليها خرائط الجنرال اللنبي قبل نحو قرن، بأنها لا تسلكها الدابة ولا العربة. واليوم توجد في شرقيها مستعمرة يصلها أنبوب مياه واحد. وعلى قرب منها في مكان يدعي رامات حباب يوجد بها مستودع كبير للنفايات الكيماوية السامة (بروميم)، التي اعترضت على وجودها لجان بيئية محلية ودولية لأنه سمم المياه وقتل النباتات، وسببت خطوط الضغط العالي إشعاعات خطرة، ولا يزال الفلسطينيون في النقب الذين يعيشون بالقرب منها، يعانون من أمراض سرطانية. هل هذا هو المستقبل الذي تعرضه إسرائيل للاجئين في مشروع تسوية كامب دافيد؟

لكن قطاع غزة المزدحم بمليون وربع إنسان بكثافة 4200 شخص/كم2 هو مأساة إنسانية إذا ما قورن بعدد السكان اليهود حول هذا القطاع. تبلغ الكثافة لليهود القرويين حول القطاع 6أشخاص/كم2 فقط أي حوالي واحد في الألف من كثافة قطاع غزة. واللاجئون هناك يرون أراضيهم شبه الفارغة رؤية العين، مثلهم في ذلك مثل اللاجئين على حدود لبنان. ولا يوجد في جنوب فلسطين بمساحة 14.000كم2، من الفالوجة إلى العقبة، سوى 78.000 يهودي قروي فقط (بالإضافة إلى سكان المدن مثل بئر السبع واسدود وغيرها). ولو تبادل هؤلاء الأماكن مع اللاجئين، لامكن عودة كل اللاجئين في قطاع غزة إلي بيوتهم دون مشقة، وأمكن استيعاب هؤلاء اليهود القرويين في مخيم واحد أصغر من مخيم جباليا.

من هذا كله نجد أنه من المستحيل أن يقبل اللاجئون بأي حل دون حق العودة الكامل. وليطمئن "الواقعيون" دعاة السلام أن كل ادعاءاتهم بعدم إمكانية العودة هي مجرد ترديد للباطل الذي تسوّقه إسرائيل وتدفع أمريكا ثمنه دراسات وبحوثاً.

إن الواقعية الحقيقية هي أنه يستحيل هضم حقوق 5 ملايين لاجئ، أراضيهم مباحة للغرباء، ورغم 50 عاماً من الاستيطان لا يزال معظم أراضيهم قليل الكثافة. الواقعية الحقيقية هي أن هذه المنطقة لن تنعم بالسلام إذا بقيت أكبر وأهم وأقدم جماعة للاجئين في العالم محرومة من العودة إلى ديارها. إذ لو رفض 1% فقط منهم هذه الحلول المفروضة، لتكونت منهم قوة قوامها 50.000 موزعة على المناطق الخمس لوكالة الغوث (الأونروا) أي بمعدل 10.000 في كل منطقة، وهذه كافية لأن تجعل المحتل لا يغمض له جفن، كما حدث في جنوب لبنان.

صحيح أن اللاجئين يعيشون اليوم تحت ظل 8 منظومات سياسية لا يسمح معظمها لهم بالتعبير الكامل عن تطلعاتهم وحقوقهم، وصحيح أنهم يعيشون في بضع عشرة بلداً، لكن الاتصالات الإلكترونية بكل أنواعها قللت كثيراً من أهمية الفصل الجغرافي، ونقلت الأفكار والأخبار وردود الفعل بسرعة وكفاءة غير مسبوقة.

الحل إذن هو في التمسك بالقانون الدولي وتعبئة طاقات الشعب الفلسطيني في إطار شعبي موحد، والاتفاق على برنامج وطني شامل يتعدى الأحزاب والفصائل ويعلو فوق المساومات حول شبر هنا ومتر هناك، وإعادة بناء السند العربي والإسلامي وتفعيله، والاستفادة من حوالي مليون فلسطيني في الشتات خارج دول الطوق لتنوير الرأي العالمي ومساندة الجمعيات غير الحكومية، وهو الميدان الذي حدثت فيه تطورات كبيرة خلال سنوات ما بعد أوسلو، وأدي إلى انتشار أكثر من 200 جمعية مؤيدة لحق العودة. وليستعمل الفلسطيني المدافع عن حقوقه في القرن الواحد والعشرين أسلحة جديدة من الكفاءة والخبرة والتنظيم، بعد أن أفلس عهد الشعارات والمعارك الإعلامية والتصرفات المشبوهة.