أما لهذا الليل من آخر؟ ما يصلنا من أخبار عن مفاوضات الحل النهائي لا يوحى بالاطمئنان والثقة، خصوصاً فيما يتعلق بحق العودة للاجئين والذى تهون دونه جميع المواضيع الأخرى على أهميتها.

ولا يتعلق القلق بموقف إسرائيل، فهذا موقف العدو الذى تجب مجابهته بجميع الأسلحة، ولا يتعلق بموقف أوربا، فهذا الموقف يمكن تطويعه وتفعيله بالجهد الجاد المتمكن، ولا يتعلق بموقف الدول العربية والإسلامية، فموقفها المعلن صامد إلا من تهاوى على جانبى الطريق، وموقفها الفعلي رهن بالجهود الفلسطينية. لكن القلق يكمن في نية المفاوض الفلسطيني وقدرته وكفاءته ورغبته الحقيقية في التمسك بحق العودة.

ولو نظرنا إلى الإعلان الرسمي للمفاوض الفلسطيني، لرأينا أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان. فهو يصر على التمسك بالقرار 194 القاضي بحق كل لاجيء في عودته إلى بيته مع تعويضه عما عاناه مادياً ونفسياً عام 1948.

لكن الاداء الحقيقي أبعد ما يكون عن ذلك. ذكرت بعض التقارير الصحفية أنه اثناء زيارة الوفد الفلسطيني لمجلس العلاقات الخارجية (الامريكي )، ذكر الوفد في اجتماع مغلق أنه لا يصر على حق العودة، وذكر مثل هذا عند زيارة الوفد إلى بلير في لندن وشيراك في باريس. وذكرت هارتس أن باراك حصل على موافقة عرفات اثناء زيارة الاخير له في بيته على عدم عودة اللاجئين إلى ديارهم مقابل عودة بعضهم إلى الضفة وغزة بشرط موافقة اسرائيل على نوعهم وعددهم وتاريخ رجوعهم.

قد تكون كل هذه إشاعات، لكنه لم تصدر أية بيانات رسمية تنفي ذلك رغم أن " الحياة " طلبت في عدد من افتتاحياتها إيضاح الحقيقة، خصوصاً فيما يتعلق بالاتفاق مع باراك الذى ذكرته هارتس بتفصيل دقيق.

ولو وضعنا كل هذا جانباً، ونظرنا إلى دور " دائرة اللاجئين "، لما وجدنا ايضا سبباً للاطمئنان. فهذه الدائرة جزء من منظمة التحرير الفلسطينية، وهي الوحيدة، نظرياً على الاقل، التى تدافع عن حقوق اللاجئين داخل مناطق السلطة ( حيث يوجد 29 % من اللاجئين فقط ) وخارجها وهم الأغلبية. قامت الدائرة بالاستعداد للمفاوضات وعقدت ندوة مكثفة لذلك، وشاركت في ندوات أخري كثيرة.

وعندما بدأت المفاوضات، استُبعد رئيسها الدكتور أسعد عبدالرحمن من الوفد المفاوض، فاستقال من الدائرة، وأعيد إليها بترضية، وفي منتصف نوفمبر استقال مرة أخرى بسبب تهميش دور الدائرة وغيابها عن المفاوضات. ومن العجيب أن يكثر الحديث عن تدخل بعض الأجهزة الأمنية في ذلك للحلول محل الدائرة في المفاوضات. ورغم أن جهود الدائرة تحتاج إلى تكثيف وتقوية لكي تكون جاهزة للمفاوضات، إلا أن مجرد التفكير في تمثيل اللاجئين في المفاوضات بأحد الأجهزة الأمنية لا يقل عن كونه تراجيديا يونانية من الطراز الأول.

ومهما كانت طبيعة الصراع داخل السلطة، فإن القلق في أوساط خمسة ملايين لاجيء تفاقم، ولابد أن ينتهي بأمر حاسم. إذ لو فرضنا أن معجزة حدثت وأن 99 % من اللاجئين قد أقروا بالتنازل عن حقوقهم، يبقي 1 % أو 50,000 شخص مستعدون للدفاع عن حقوقهم ولو بالقوة، وهم موزعون على خمس مناطق تعمل فيها وكالة الغوث ( الضفة، غزة، الاردن، سوريا، لبنان ) أي أنه من ناحية نظرية يمكن وجود ميلشيا من 10,000 شخص في كل واحدة من هذه المناطق، إضافة إلى من يتعاطف معهم من أهل البلاد نفسها.

وبعد أوسلو تزايد عدد الجهات الناشطة المدافعة عن حقوق اللاجئين، فتوجد في الضفة وغزة مراكز شباب المخيمات وعدد من الجمعيات غير الحكومية، هذا بالإضافة إلى نواب في المجلس التشريعي، وعناصر في فتح والفصائل الأخرى التى لازالت تتمسك بالثوابت الأساس. وفي الأردن، يوجد زخم شعبي كبير يجد متنفسا له خلال الاحزاب والجهات المرخص بها. وفي لبنان، أكثر المناطق انفتاحاً من ناحية سياسية واسوأها من ناحية معيشية، يتزامن التمسك بحق العودة مع رفض التوطين. وفي سوريا، تتولى الفصائل المعارضة التعبير عن حق العودة.

لكن أكثر الناشطين تأثيراً على الرأي العام الغربي يبرز في اوربا، وخصوصا بريطانيا، وامريكا. في لندن، نجحت مجموعات الضغط العربية في تخصيص يوم 24 نوفمبر الحالي لتأكيد حق العودة في مجلس العموم البريطاني. وفي ربيع عام 2000 سيعقد مؤتمر كبير في واشنطن عن حق العودة لتنوير الرأي العام العالمي.

وبصفة عامة، يوجد ما لا يقل عن خمسين جهة أو جمعية غير حكومية داخل فلسطين وخارجها ( من المؤسف أنه لا توجد أي منها في بلد عربي عدا لبنان ) تسعي إلى تأكيد حقوق اللاجئين في العودة. وقد أصبح الآن من الضروري انشاء مجلس عام للتنسيق بينها.

الموقف الاسرائيلي واضح غاية الوضوح، قبل أن يتفوه باراك بلاءاته الأربعة. والمتتبع للموقف السياسي الاسرائيلي، سواء في الصحافة أو مراكز البحث الاسرائيلية أو الامريكية منذ زمن طويل، يستنتج بسهولة أن الطعم الاسرائيلي لقبول هذه اللاءات هو الاعتراف بدولة فلسطينية. والسبب هو الشبق الفلسطيني لإعلان دولة حتى لو لم يبق فيها من الدولة سوي هذه الحروف الأربعة. فهذه الدولة لن تقوم على أكثر من ثلث الضفة، أي 6 % مساحة فلسطين، وتكون 94 % منها اسرائيلية. ومن مهازل القدر أن هذا عكس الموقف التاريخي لعام 1948، عندما سيطر اليهود على 6 % من فلسطين والعرب على 94 % منها. ولن يكون لهذه الدولة سيادة على الأرض والماء والجو والحدود والجيش والعلاقات الخارجية، إذا ما ترك لاسرائيل قرار تحديد طبيعتها.

إذن ما هو السبب في تلاقي الموقف الفلسطيني والاسرائيلي على قيام مثل هذه الدولة؟ السبب هو رغبة اسرائيل في القضاء على مرجعية القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة فيما يتعلق بالحقوق الفلسطينية، بالتوقيع على معاهدة تضمن التنازل عن هذه الحقوق مع “ دولة “ معترف بها. هذا لا يلغي الحقوق الفلسطينية فحسب، بل يجعل المطالبين بها من اللاجئين في داخل مناطق السلطة وخارجها مطاردين قانوناً من كل الدول العربية والأجنبية، تسجل اسماؤهم في قوائم انتربول، وتعلن السى إى أى عن جوائز للقبض عليهم !

ولذلك فإن اسرائيل تسعي إلى الاتفاق مع الطرف الفلسطيني حول اللاءات الاربعة في "الإطار العام " المتوقع الوصول إليه في فبراير 2000، ثم إلى الاتفاق على التفاصيل بعد ذلك، ولكن لن تعلن اسرائيل موافقتها على هذه الدولة، إلا بعد توقيع " دولة " فلسطين على هذه التنازلات. ولكي يتحقق هذا الغرض فإن المفاوضات السرية والشخصية هي الوسيلة المفضلة لاسرائيل. ولذلك لا نعتقد أن اسرائيل ستوافق راضية على لجان يعمل بها خبراء مختصون في جميع المجالات ويعتمدون القانون الدولي كمرجعية للمفاوضات.

لكن الأمور لن تجري بهذه السهولة. لقد قال الفلسطينيون قولهم رداً على ذلك. جاء في استبيان أعلنته هيئة الاستعلامات الفلسطينية في سبتمبر الماضي أن 90.8 % يرفضون التنازل عن حق العودة مقابل قيام دولة فلسطينية. هذا هو الحس الوطني الصادق. هذا هو رأي هؤلاء الفلسطينيين، رعايا الدولة العتيدة، فكيف بمن يعيشون خارجها؟

العقبة الثانية امام هذا المخطط أن حق العودة هو في أساسه حق فردي، نابع من حقوق الانسان ومن حق الملكية الفردية الذى لا يسقط بالتقادم أو الاحتلال أو السيادة. وهو بذلك حق لا تجوز النيابة فيه أو التمثيل عنه. ومن ناحية عملية وقانونية، لا يمكن للسلطة أن تمثل كل الفلسطينيين خارج مناطقها ومنهم من يحمل جنسيات أخري. وحيث أن هؤلاء هم الأغلبية، فهذا يجعل أي اتفاق سياسي على إسقاط حقوقهم عديم القيمة. ومنظمة التحرير الفلسطينية بصفتها “ الممثل الشرعي والوحيد “ للشعب الفلسطيني استطاعت في الماضي القيام بهذا الدور في تعاقد طوعي مع الفلسطينيين على الدفاع عن حقوقهم، وهو شبيه بعقد المواطنة الملزم بين الدولة والمواطن الذى يعيش على أرضها، بحيث تدافع الدولة عن حقوقه مقابل أن يقر المواطن بولائه للدولة وإقراره بقوانينها. لكن التعاقد الطوعي مع المنظمة يسقط تلقائياً في حال تخلت المنظمة عن التمسك بحقوق الفلسطينيين التى هي أصل التعاقد. ولذلك فإن التعاقد الطوعى يستلزم من قيادة المنظمة ولاء أعظم وجهداً أكبر من الدولة العادية للدفاع عن الحقوق للحفاظ على هذا التعاقد.

والآن ما العمل؟ العجز العربي والفلسطيني هو العذر الذى يشهر في وجوهنا كلما طالبنا باداء أفضل. ولو حدث هذا في دولة أوربية، لكان الجواب: إذن فلتسقط هذه الحكومة، وتأتي حكومة غيرها أكثر قدرة، فلا يجوز أن تكون حقوق الشعب رهناً بقدرة المتشبث بالكرسي. لكن هناك وسائل أخرى.

أولاً، يجب تجنيد كل طاقات الشعب الفلسطيني للمطالبة بحقوقه. هذا ليس طموحاً زائداً، فهو يحتاج إلى إرادة قوية وقدرة تنظيمية متواضعة. يمكن بداية تقوية وتفعيل جميع الجهات والجمعيات والمراكز والأشخاص المساندين لهذه الحقوق عن طريق التنسيق الطوعي والتشاور والمشاركة، بحيث تشترك كل فئات الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج في هذا الجهد.

ثانياً، يجب التنسيق بين الجمعيات غير الحكومية وجماعات حقوق الانسان والاتصال بالبرلمانات الأوربية والدول المانحة للمعونات وغيرها وتنوير الرأي العام المؤثر في الصحافة والاذاعة والتلفزيون. وهذا يتأتي بتكوين لجنة تنسيق أختيارية تجمع بينهم ( وهذا قائم إلى حد ما الآن ).

ثالثاً، يجدر دعم " هيئة أرض فلسطين " لتمثيل الحقوق المادية للاجئين بتمثيل 500 قرية ومدينة في جمعية أهلية، وتوثيق حقوقهم القانونية. وهذا أضعف الايمان وإن كان متأخراً مقارنة بجمعيات الحقوق اليهودية في أوربا وفي البلاد العربية، وحتى جمعية ضحايا لوكربي.

رابعاً: يجب دعم وكالة الغوث ( الاونروا ) فهي الهيكل المادي الدولي لقضية اللاجئين وعدم السماح بتقليص خدماتها، وعدم السماح باقتطاع الدول المانحة لتبرعاتها لتحويلها إلى السلطة الفلسطينية.

خامساً، يجب عقد مؤتمر دولي عام مرة واحدة في السنة على الأقل للدفاع عن حقوق اللاجئين يجتمع فيه أهل الحقوق والرأي والاختصاص، وربما أهل القرار.

سادساً، الاتصال المستمر والمباشر مع منظمة التحرير من أجل ايقاظها من رقادها والدول العربية والإسلامية للتأكيد على عدم التفريط بالحقوق وعدم الانفراد بالقرار.

وليكن في نصف القرن الماضي عظة وعبرة، إذ أنه منذ نكبة فلسطين عام 1948، سقط دون استثناء كل شخص وكل نظام في فلسطين والدول المجاورة، انفصم عن شعبه وتخلى عن حقوقه.