السلام عليكم ورحمة الله،،

ساقتصر في مداخلتى على بعض الاوضاع الجغرافية والديموغرافية والقانونية. ولقد كفى الاخوة الذين سبقوني وأوفوا الموضوع حقه في معظم جوانبه.

لست في حاجة إلى أن أذكركم بمكانة القدس لدى المسلمين والعرب والفلسطينيين. ولكنى أقول أنها ضحية عملية من أغرب وقائع القرن العشرين فالقدس، مثل سائر فلسطين، ضحية أكبر وأطول وأنظم عملية تنظيف عرقى في التاريخ الحديث لا زالت مستمرة حتى اليوم.

وهذه العملية ذات ثلاثة أذرع: أولها استلاب الأرض العربية، وثانيها التخلص من أهلها بالمذابح والتشريد والقمع، وثالثها طمس الهوية والتاريخ ومحو المعنى الدينى والتاريخى والثقافى للمكان بتزويره أو تدميره أو تحويل ملكيته.

وعلى ذلك فإن عملية التنظيف العرقي هى اسوأ من مجموع الاحتلال والعنصرية والفصل العنصري والنازية والفاشية. وهى شرور عانت من احداها، منفردة، معظم شعوب آسيا وأفريقيا. ولكنها جمعت كلها في فلسطين.

كل هذه الشرور أوقدتها شرارة وعد بلفور. في مساء يوم الاربعاء 31 اكتوبر 1917 تمكنت القوات البريطانية من الاستيلاء على بئر السبع بعد أن فشلت مرتين في احتلال غزة. وقد كانت غزة وبئر السبع تمثلان بوابة فلسطين الجنوبية. فأرسل اللنبى قائد القوات البريطانية برقية إلى لندن قال فيها: "لقد أخذنا بئر السبع. ستكون القدس هدية عيد الميلاد لكم". وصلت البرقية في 1 نوفمبر فأخرج بلفور الرسالة التى اتفق عليها مع زعماء الصهيونية قبل ذلك بشهور، وأعلن وعده المشئوم في 2 نوفمبر.

الانتداب والآثار

وعندما تعيّن رونالد ستورز في منصب الحاكم العسكرى للقدس بدأ في تنفيذ مطالبات الصهاينة فادخل اللغة العبرية كلغة رسمية، وغير اسماء شوارع القدس باسماء توراتية، وخلق نوادي ومؤسسات صهيونية تعاملت مع بريطانيا ثقافة وسياسة.

لكن الطابع العربي الإسلامي والمسيحي في المدينة لم يزل حينئذ غالباً. ولم تستطيع بريطانيا تجاهله. فأصدرت حكومة فلسطين الانتدابية قانوناً عام 1924، أكد حماية الاماكن المقدسة واعتبار "الحقوق السارية" للديانات والملل والطوائف قبل ذلك معترف بها.

ومن اللافت أن حكومة الانتداب اعتبرت أن الآثار التاريخية في فلسطين ذات أهمية خاصة، فأصدرت في أول عهدها قانوناً بذلك. وهذا استمرار لجهود بعثة صندوق اكتشاف فلسطين التى جاءت لفلسطين عام 1871 لكى تبحث عن الآثار التاريخية التى تؤكد قصص الكتاب المقدس. وهذا ايضاً استمرار لابحاث الكثير من القساوسة والرحالة والضباط والجواسيس الذين رسموا وخططوا فلسطين وآثارها منذ القرن التاسع عشر على الأقل.

لكن الغريب حقاً أن قانون حماية الآثار الفلسطينى استبعد منها كل الآثار التى انشئت أو رممت بعد عام 1700، واعتبرها غير ذات أهمية. وهذا معناه أن معظم الآثار الاسلامية العثمانية في القدس، وهى أكثرها عددا، قد اسقطت من الحساب.

ولما حاول الصهاينة الاعتداء على حائط البراق عام 1929، وجاهروا برغبتهم في هدم المسجد الاقصى وبناء الهيكل عليه، هب العرب للدفاع عنه، وقتل في الاشتباكات عدد من العرب واليهود. فكونت بريطانيا بعثة قضائية دولية لم يشارك فيها بريطانيون، وجاء في تقريرها الصادر عام 1930:

"إن ملكية الحائط الغربى [أى حائط البراق]، من حيث أنه جزء لا يتجزأ من ساحة الحرم الشريف تعود إلى المسلمين كملكية منفردة، مطلقة، كجزء من الوقف الإسلامي".

الغزو الصهيوني

تمكن الصهاينة من بناء جيش مدرب تحت الحماية البريطانية، بينما دمرت بريطانيا المجتمع الفلسطيني قيادة وشعباً في الثورة العربية الكبرى من عام 1936 – 1939. وفي نكبة عام 1948 تمكن الصهاينة من الاستيلاء على 78% من مساحة فلسطين، وتهجير أهالي 675 مدينة وقرية وضيعة بما فيها القدس الغربية، أهلها اليوم لاجئون في أصقاع الأرض، وهم يمثلون ثلثى الشعب الفلسطينى أى أكثر من ستة ملايين نسمة، وهى أعلى نسبة في العالم لتشريد شعب.

ومن المفارقات، وما أكثرها، أن احتلال إسرائيل للقدس الغربية مخالف لتعهدات إسرائيل نفسها. عندما أعلن بن جوريون قيام دولة إسرائيل في 1948/5/14 لم يجد لنفسه شرعية يتكئ عليها بجانب ادعاءه صلات اليهود التاريخية بفلسطين، غير قرار التقسيم رقم 181 الصادر في 1947/11/29، أى قبل قيام الدولة بستة شهور.

ولكن قرار التقسيم على علاته، فهو مجرد توصية لا وزن لها إلا إذا اتفق عليها الطرفان، لا يعطى إسرائيل حقاً في احتلال القدس ولا في الأرض التى تصل القدس بتل ابيب ويافا، بما فيها اللد والرملة وقرى القدس الغربية. فهذه تابعة للدولة العربية حسب قرار التقسيم. أما القدس فقد اعتبرها التقسيم منطقة منفصلة Corpus Separatum تدار دولياً.

ولذلك فإن الأصبع الممتد من الساحل إلى القدس الذى ترونه على الخرائط، الذى احتلته إسرائيل عام 1948، مخالف لشرعية كيانها كما تراه هى في إعلان الاستقلال.

وفي عملية التنظيف العرقي التى قامت بها إسرائيل، هجرت أهالي القرى الواقعة في الدولة المخصصة لغالبية يهودية، أى أن بن جوريون قتل وطرد مواطنى الدولة التى يريد إقامتها لانهم عرب وليسوا يهوداً، وكانوا يمثلون نصف سكان تلك الدولة.

ولذلك فإن الأمم المتحدة عندما قبلت إسرائيل عضوا فيها، اشترطت عليها شرطان – لا مثيل لهما في عضوية أية دولة أخرى:

الشرط الأول: التزام إسرائيل بقرار التقسيم رقم 181 أى الانسحاب من القدس الغربية واللد والرملة والجليل الأعلى، أى ما يساوى 24% من مساحة فلسطين احتلتها إسرائيل زيادة عن مشروع التقسيم.

الشرط الثاني: الالتزام بقرار 194 الشهير القاضى بعودة اللاجئين الذين طردتهم إسرائيل من ديارهم والصادر في 1948/12/11، أى بعد يوم واحد من إقرار الأمم المتحدة لشرعية حقوق الانسان.

وافقت إسرائيل على هذين الشرطين لمدة يومين فقط إلى أن وافقت الأمم المتحدة على عضويتها فيها. وبعد يومين من الموافقة، وضعت إسرائيل شروطاً وتحفظات أخلت التزامها الدولي من مضمونه إلى يومنا هذا.

الأمم المتحدة والآثار

الفقرة 11 من قرار 194 هى المشهورة وهى التى تدعو إلى عودة اللاجئين إلى ديارهم بما فيها القدس. ولكن الفقرة 7 من نفس القرار ذات أهمية خاصة إذ تقول:

"يجب حماية الاماكن المقدسة في فلسطين واستمرار إدارتها حسب الحقوق الحالية والعرف المعمول به تاريخياً". وتكون هذه الاجراءات تحت مراقبة الأمم المتحدة.

وهناك فقرة أخرى من قرار 194 تضع آلية تنفيذ قرار عودة اللاجئين وهى انشاء "لجنة التوفيق الدولية لفلسطين". من اوائل أعمالها تحت راية الأمم المتحدة هو تسجيل قائمة بالأماكن المقدسة في فلسطين: الإسلامية والمسيحية واليهودية. [انظر القائمة].

وفي هذه القائمة أدرج الحرم الشريف والحرم الإبراهيمى كأثران إسلاميان. وبعد قيام إسرائيل بستة سنوات، صدرت عام 1954 اتفاقية لاهاى لحماية الاماكن الثقافية والدينية في حالة النزاع المسلح. تقول المادة 9 منها:

"على القوة المحتلة أن تمتنع عن أى عمل يؤدى إلى تغيير ملكية الآثر، أو تغيير استعماله، أو تغيير عمارته، أو الحفر تحته بغرض تدمير الدليل التاريخي للآثر أو إخفائه".

وفي عام 1966 صدر العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والذى وقعت عليه إسرائيل، وأكد على حرية العبادة وسلامة أماكن العبادة حسب العرف الجاري تاريخياً.

وفي عام 1968، أى بعد عام واحد من حرب 1967 أكدت اليونسكو الأهمية الفريدة للقدس من أجل الانسانية جمعاء وطالبت إسرائيل بايقاف الحفريات وتغيير المعالم والاستيلاء على الممتلكات، وقررت فتح مكتب لها في القدس.

ضم إسرائيل للقدس وقراها

ولكن: هل نحن في حاجة لان نستذكر كومة أخرى من القوانين الدولية التى ضربت بها إسرائيل عرض الحائط، نتوسل بها إلى استرجاع حقوقنا؟ إسرائيل دولة بلا قانون، ولا أخلاق. وليس لها من اسباب وجودها عرف ولا قانون ولا شريعة، عدا القوة الغاشمة التى لم تجد من يتصدى لها.

انظروا ما فعلت إسرائيل، لا ما قالت. ضمت القدس وقراها بعد 9 أيام فقط من احتلالها عام 1967، ونسفت حارة المغاربة بجانب حائط البراق، رغم قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن بعدم الاعتراف بهذا الضم.

كانت مساحة القدس الانتدابية 20,131 دنم عندما احتلتها إسرائيل عام 1948- 16,261 دنم في القدس الغربية وبقى 3,020 دنم عربياً و850 دنم مناطق منزوعة السلاح.

وبعد احتلال عام 1967، وسعت إسرائيل مساحة القدس إلى 6 أضعاف، أى 123,000 دنم منها توسيع القدس الشرقية بالاستيلاء على أرضها وقراها إلى 70,400 دنم أى بزيادة 23 ضعفاً.

وهذا معناه بالطبع زيادة عدد السكان العرب. ومن هنا بدأ الاستيطان لتصحيح المعادلة. ورغم المحاولات الإسرائيلية المستميتة، فإن عدد العرب في القدس الموسعة الآن 270,000 من أصل 760,000 أى 36%. وسياسة إسرائيل تخطط إلى عدم تجاوز العرب نسبة 30% من المجموع. ولذلك تسعى بكل الوسائل إلى طردهم وتهجيرهم. وليس من المستبعد إطلاقاً أن تقترف إسرائيل مذابح جديدة، وأن تطرد عدداً كبيراً من أهالى القدس، وأن تدمر مساكن جديدة، وأن تستمر في سياستها العنصرية الهمجية.

وتكبير مساحة القدس إلى ستة أضعاف معناه ضم سور باهر، الطور، شعفاط، وبيت حنينا. لكن هذا العدوان الإسرائيلي لم يتوقف، فهم الآن يخططون لقدس أكبر، ويعزلون ما تبقى من القرى الفلسطينية بواسطة حائط الفصل العنصري، الذى يضم القدس ومستوطنات عصيون، أدموميم، وجيفون (خريطة 5 مراحل).

وهذه المستعمرات الجديدة يستوطن فيها 88 ألف مستوطن بجانب 123 ألف في داخل القدس الشرقية ما يصل إلى مجموع 211 ألف مستوطن على أرض فلسطينية مصادرة ضمت إلى القدس. ويوجد حوالي 300,000 مستوطن في باقى الضفة الغربية مقابل 2 مليون و800 ألف فلسطيني في الضفة الغربية، ما يعنى أن عدد المستوطنين في الضفة الغربية يساوى 20% من السكان. وهذه النسبة تقترب من نسبة عدد اليهود في فلسطين قبل إنتهاء الإنتداب. وإقامة دولة إسرائيل، مع فارق كبير هو أن اليهود لم يسيطروا على أكثر من 5.5% من مساحة فلسطين، وهم اليوم يسيطرون على 60% من مساحة الضفة الغربية بصورة أو أخرى.

إن هذه التوسع الشيطاني، ليس المقصود منه فقط إسكان المستوطنيين، بل طرد أهل البلاد، وعزلهم في القرى المجاورة للقدس عن مدينتهم. (خريطة 5 مراحل) وعلى سبيل المثال: فإن ثمانية قرى في الشمال الشرقي للقدس مثل بيت إكسا، بيت سوريك، بيت إجزا، وبيت دقو، قد عزلت عن القدس بواسطة حائط الفصل العنصري.

وفي شمال القدس عزلت أربعة قرى منها بيت حنينا وبير نبالا عن القدس الأم. وفي شرق القدس عزلت حوالي عشرة قرى عن القدس الأم منها أبو ديس، العيزرية، والرام. وهذه معناه عزل 22 قرية فلسطينية بعدد سكان 225 ألف و300 نسمة عن القدس الأم.

وبهذا فإن حائط الفصل العنصري يضم 4% من أراضي الضفة الغربية إلى القدس بمساحة تصل إلى 235 كيلو متر مربع (خريطة مرحلة واحدة) أو ضعفي المساحة التى ضمت عام 1967 أو أربعة وعشرين ضعفا مساحة القدس الأصلية قبل الغزو الإسرائيلي.

سياسة إسرائيل

والغرض من هذه السياسة إنه لا يسمح للفلسطينيين أن يتجاوز عددهم 30% من سكان القدس الكبرى، رغم زيادة نموهم الطبيعي، ورغم هجرة كثير من اليهود من القدس إلى تل أبيب. (خريطة 4 مراحل).

تعتمد سياسة إسرائيل في تهجير الفلسطينيين من القدس على ثلاثة عوامل:

الأول: سياسة عزلهم في مناطق مسورة.

ثانياً: إنشاء ضواحي يهودية جديدة رخيصة لتشجيع الهجرة.

ثالثاً: منع تطوير الأحياء الفلسطينية لكى تصبح غير قابلة للسكن.

ولكى يتم ذلك، فإن إسرائيل تنشئ طرقاً إلتفافيه لخدمة اليهود، (خريطة 3 مراحل) ولا تخدم الفلسطينيين مثل طريق القدس الشرقية الدائري، ومثل خط السكة الحديد الجديد، وبذلك تخلق مناطق معزولة ومسوُرة مثل الجيتو يحشر فيها الفلسطينون خارج القدس. (خريطة) وأيضاً مثل هدم البيوت العربية، لأسباب تحت أعذار تعسفية منها أيضاً الإستيلاء على الأراضي، التى تقع في وجه مشروع التوسع الصهيوني. (خريطة 4 مراحل).

على أن أهم السياسات الإسرائيلية ذات المغزى الديني، والتاريخي الهائل الذى يمتد على مدى 2000 عام من رسالة المسيح، وعلى مدى ألف واربعمائة عام من رسالة الإسلام، هو تهويد القدس العتيقة التى تحتوى على 223 معلم ديني وتاريخي هام. (خريطة 9 مراحل).

بدأت هذه السياسة كما قلنا بهدم حي المغاربة، وتحويله إلى ساحة، ثم الإستيلاء على مجموعة بيوت فيما يسمى أحياناً بالحي اليهودي غالبيتها أملاك عربية، وسكن اليهود بالإيجار في زمن الإنتداب، ثم إستولت الآن إسرائيل على ما يسمى بالحي اليهودي بأكمله.

الأخطر من هذا أن المستوطنيين بدعم مالي يهودي رسمي وشعبي من أمريكا، تمكنوا من شراء عدة منازل في الحي الإسلامي، والحي المسيحي (نفس الخريطة)، بواسطة عقود حقيقية أو مزورة لأشخاص وهميين. كما قامت إسرائيل بتطوير الأنفاق القديمة، لكى تصبح ممراً متصلاً من خارج القدس إلى حائط المبكى مباشرة يزوره السياح. ثم تخطط إسرائيل الآن لكى تفتح خطاً مباشراً لليهود من إحدى بوابات السور الشمالية والغربية، لتوفير مسالك مباشرة من الخارج إلى داخل القدس. (نفس الخريطة)، كما إنها تخطط لتوسيع القدس القديمة لجهة الجنوب، (خريطة) تحقيقاً لمعتقدات دينية ليس لها أصلُ في الحقيقة أو الواقع، تحت ما يسمى بالحوض المقدس.

الاتحاد الأوربي

وقد صدر تقرير هذا الشهر عن مؤسسة بحثية أوربية بتكليف من الاتحاد الأوربي أقتبس منه الآتى:

"إذا لم يكبح جماح الإجراءات الإسرائيلية، فإن طرد معظم أهالي القدس الشرقية من ديارهم لن يكون بعيداً عن التصور كما كان قبل عشر سنوات.

إن تحييد إسرائيل لدور السلطة الفلسطينية وخضوع القيادات الدينية التقليدية ودعمها من قبل الأردن، وتهميش حماس في المدينة قد أفقد الفلسطينيين كل عوامل المقاومة الفعالة والمنسقة. وفي المدى القريب إلى المتوسط، سيكون لإسرائيل حرية التصرف دون عائق. والتحدي الوحيد للاجراءات الإسرائيلية هو الحركة الإسلامية بقيادة رائد صلاح. وحيث أنه قادم من إسرائيل نفسها، فإن إسرائيل لن تقبل بتحويل هذا التحدى إلى حركة شعبية واسعةـ أكثر من استقدام المسلمين للصلاة في القدس. وستكون النتيجة اللجوء إلى العنف.

وهذا سيؤدى إلى احتمالين خطيرين:

الأول: أن تنزلق القدس إلى تقسيم عنصري واضح يؤدى إلى طرد الطرف الضعيف.

والثاني: أن تتحول المدينة إلى ساحة قتال واسع حول الأماكن المقدسة".

ما العمل؟

لقد عبرنا عن شجبنا للاعتداءات الإسرائيلية في عشرات المؤتمرات والبيانات. وقد أرحنا ضميرنا لفترة قصيرة ورفعنا عنا العتب. ولكن كل هذا لم يغير من الامر شيئاً. ولن يغير منه إلا العمل المفيد المباشر.

أول الاعمال المطلوبة هو دعم الانسان الفلسطيني لكى يبقى على أرضه وفي بيته، ولكى يتعلم ابنه في مدرسته تربية وطنية ودينية، ولكى يجد العلاج في مستشفى قريب منه ولكى يجد عملاً يقتات منه.

إسرائيل واعوانها في أمريكا وأوربا يصبون الملايين من الدولارات للقضاء على الوجود العربي في القدس. وكل الجهود التى تمت لدعم القدس عربياً وإسلامياً لا تزال نقطة في بحر.

والعمل الثاني المطلوب هو اقتحام ميدان المعركة القانونية وكشف الجرائم الإسرائيلية في المنابر الدولية وامام البرلمانات وجمعيات حقوق الانسان. فهذه معركة ناجحة، والمناخ العالمي مهيأ لها، ومادة الادعاء ضد العدو متوفرة وساطعة البيان. وهى فوق هذا، لا تكلف أكثر من ثمن دبابة رابضة في مخبأها.

والعمل الثالث هو تنوير شعوب العالم عن قضيتنا، عن طريق الإعلام والمعارض في سائر انحاء العالم وزيارات وفود الاطفال والنساء والاطباء والمدرسين من القدس لعواصم العالم. وليس هناك أبلغ من صاحب القضية وضحية الظلم أن يتكلم.

والعمل الرابع هو تفعيل مقاطعة إسرائيل في المحافل الدولية مثل ديربان، وجنيف، واستقطاب الدعم لهذه المقاطعة. ولسنا أقل شعوراً بالظلم من 48 جامعة أوربية وأمريكية التى نظمت هذا الشهر أسبوع الفصل العنصري ضد إسرائيل.

وهذا يستوجب الضغط الاقتصادي على بعض الدول المعادية لقضيتنا مثل المانيا التى تزود إسرائيل بغواصات نووية وتوقع معها 55 إتفاقية علمية تساعدها في تطوير أسلحة الدمار الشامل. ولا تزال تستنزف أموالنا بصادراتها المكلفة إلى اسواقنا، وتعود أرباحهم كمساعدات إلى إسرائيل.

وأخيراً وليس آخرا، إعادة يدنا الممدودة للسلام مع العدو إلى موضعها الكريم. لقد تعبت اليد الممتدة ولم تجد من العدو غير القتل والتدمير. وإذا كان جسم الجريمة الأول هو التنظيف العرقي لفلسطين، فإن الدواء الناجع الوحيد لهذا الداء القاتل هو الاصرار على تنفيذ حق العودة والتمسك به.

والمبادرة العربية ليست واضحة في حق اللاجئين في عودتهم إلى ديارهم. وهو ما أشاع الفرح في الاوساط الإسرائيلية كما كتبت صحفهم. فالنص يدعو إلى حل "عادل، يتفق عليه". لكن الحل "العادل" قد سبق أن عرّفته الأمم المتحدة 100 مرة تعريفاً جلياً واضحاً وذلك بالعودة إلى الديار التى طرد أهلها منها. وأما إسرائيل فهى ترغب في استعمال هذا النص للدخول في مفاوضات أبدية لتعريف هذا "الحل العادل". أما شرط أن "يتفق عليه"، والمقصود مع إسرائيل، فهو ضرب من الخيال، لان إسرائيل أعلنت في اسبوع ولادتها، أنها لن تسمح بعودة لاجئ واحد، ولا تزال مصرة على ذلك إلى اليوم.

إن قضية القدس وقضية فلسطين لا يمكن أن تشطب لا من جدول القضايا التى تشغل الانسان العربي والمسلم ولا من جدول القضايا الدولية، إلا إذا عاد الانسان العربي إلى بيته ودياره التى طرد منها بالقوة الغاشمة.

وأذكركم في الختام باللقاء الفريد الذى تم بين الرئيس الامريكي روزفلت ومؤسس المملكة جلالة الملك عبد العزيز طيب الله ثراه عندما تقابلا على ظهر بارجة في قناة السويس عام 1945.

حاول روزفلت استعطاف الملك عبد العزيز على اليهود لما لاقوه على أيدى النازيين، فرد عليه الملك: اعطهم وذريتهم أفضل منازل الالمان الذين اضطهدوهم. دع الجاني يدفع الثمن وليس البرئ الذى ليس له ذنب.

وتكرر هذا المشهد الفريد مرة أخرى بعد 22 عاماً إذ تقابل جلالة الملك فيصل رحمه الله مع ديجول في الثاني من يونيه عام 1967 وطلب ديجول من جلالة الملك أن يقبل بالأمر الواقع ويعترف بوجود إسرائيل لا محالة.

فأجاب الملك فيصل: يا فخامة الرئيس أنى استغرب كلامك هذا. لقد احتل هتلر باريس، وكل فرنسا استسلمت إلا أنت، فانسحبت مع الجيش الإنجليزى وبقيت تعمل لمقاومة الامر الواقع حتى تغلبت عليه.

هؤلاء هم القادة. القدس لا تعود حرة إلا بشعب مقاوم وقادة مخلصين.

وما ضاع حق وراءه مقاوم.

والسلام عليكم ورحمة الله.