خرج المفاوض الفلسطيني من كامب دافيد رافعاً رأسه، ليس لأنه استرجع شيئاً من الحقوق بل لأنه رفض التنازل عنها. هذا حالنا اليوم. كل ما نسعى إليه هو التمسك بالشرعية الدولية التي تعيد إلينا حقوقنا، ونرفض اساليب الترغيب والترهيب وفرض الأمر الواقع وتصوير التنازل على أنه نوع من الواقعية العقلانية والتمسك بالقانون الدولي نوع من التطرف.

وإن كان التمسك بالحقوق قد نجح، حتى الآن، في الإصرار على الحق العربي في القدس، بدعم صادق ومستمر من مصر، إلا أننا لا نري الصورة واضحة في المواضيع الأخرى وعلى رأسها قضية اللاجئين وهي جوهر النـزاع وأصله التاريخي، ونكبة فلسطين سميت كذلك لأنها تصف فصم الشعب عن أرضه التاريخية، فأصبح الشعب لاجئاً، وأصبحت الأرض محتلة بالأغراب الذين أتوا ليحلوا محلهم. ولا يستطيع أحد أن يتصور استتباب أي نوع من السلام الدائم دون عودة اللاجئين.

وحق العودة مقدس في وجدان كل فلسطيني، ويكفي أن نري الأجيال المتعاقبة، التي فرقها احتلال فلسطين، تتقابل على الحدود اللبنانية، لكي تلقي الجدة التي بقيت في فلسطين نظرة أخيرة على حفيدتها التي أصبحت لاجئة في لبنان.

وحق العودة مكفول بالقانون الدولي بشكل قاطع. فقد أكده الميثاق العالمي لحقوق الانسان، وأكده القرار 194 أكثر من 100 مرة في إجماع دولي منقطع النظير لم ينطبق مثله على أي قضية أو أي شعب. وهو أيضا حق فردي نابع من حرمة الملكية الخاصة التي لا يزيلها احتلال أو إعلان سيادة جديدة أو أي إتفاق سياسي من أي نوع، ولا يجوز فيه التنازل أو التمثيل أو النيابة ما دام الأصل موجوداً.

والقرار 194 هو تجسيد للقانون الدولي وليس سابقة له، وهو قرار متكامل لأنه أولا يدعو إلى عودة كل لاجيء إلى بيته وأرضه وليس إلى فلسطين فحسب، وثانيا يدعو إلى إغاثة اللاجئين إلى أن يتم ذلك وثالثاً يدعو إلى انشاء هيئة التوفيق لكي تجد الآلية المناسبة لعودة اللاجئين. من هذه الثلاثة، لم يطبق إلا ثانيها وهو إنشاء وكالة الغوث (الاونروا) التي لا تزال تزاول عملها لمدة 50 عاماً خلت، بينما كان المتوقع أن يستمر عملها 3 سنين فقط. وقد نجح بن جوريون في إفشال مفاوضات هيئة التوفيق في لوزان عام 1949 لأنه كان يعلم أن السلام مع العرب آنذاك يعني عودة اللاجئين واسترجاع العرب لجزء كبير من الاراضي التي احتلتها إسرائيل، وخصوصاً تلك التي تجاوزت فيها إسرائيل حدود التقسيم والتي تبلغ مساحتها 24% من فلسطين (6300 كم مربع). ولذلك خطط للعدوان الثلاثي عام 1956 ليسبغ على خطوط الهدنة المؤقتة صفة الحدود الدائمة.

ولم تتغير الخطط الصهيونية حتى اليوم وهي إنتزاع الأرض من أهلها ومنع عودتهم بتدمير قراهم واحلال مهاجرين محلهم، والدعوة إلى توطين اللاجئين في أي مكان من العالم عدا وطنهم.

لكن الأساليب اختلفت. الآن هم يرفضون عودة اللاجئين بدعوى الواقعية وعدم إمكانية عودة اللاجئين عملياً. ولا يهمنا ما تدعيه إسرائيل فهذا متوقع ومتطابق مع أهدافها. ولكن يهمنا تنوير الاوربيين وبعض العرب (وهل نقول بعض المسئولين العرب أيضا؟) الذين يقعون فريسة لهذه الادعاءات دون دراية أو درس جاد.

أولا يقول الإسرائيليون أن القرى دمرت والحدود ضاعت، ويصعب استرجاع الأملاك. هذا غير صحيح إطلاقاً، ويوجد من الخرائط والوثائق ما يكفى لإعادة كل دنم إلى أصله. والتقنية الحديثة كفيلة بمقارنة الخرائط البريطانية مع صور الأقمار الصناعية لتعيد كل قطعة أرض إلى أصلها. وهذه الوثائق كلها موجودة عند " دائرة إسرائيل للأراضي " (وعند غيرها) وبموجبها تؤجر أراضي الفلسطينيين لليهود.

ويقولون أن البلاد ملآنة بالمهاجرين اليهود ولا يوجد مكان لعودة اللاجئين، وهذا كذب صريح. والواقع أن 78% من اليهود يعيشون في 14% من مساحة إسرائيل. ويعيش 22% من اليهود في الباقي، ولكن حوالي 19% منهم يعيشون في مدن فلسطينية أصلاً من عكا وصفد شمالاً إلى بئر السبع وإسدود جنوباً. ويبقي أقل من 3% هم سكان الكيبوتز الذين يستغلون أرض اللاجئين التى تبلغ 18 مليون دنم (دنم =1000 متر مربع = 4/1 فدان). وهؤلاء ثبت فشلهم وتراكمت عليهم الديون وهجروا الكيبوتز إلى المدن. وبذلك سقطت نظرية " اليهودى المزارع الذي عاد إلى أرضه "، بل تأكدت الصفة التقليدية لليهودي الذي يعيش في المدن في مراكز تجمعات يهودية ويشتغل بالمال والتجارة.

ولأن سكان الكيبوتز يتمتعون بامتيازات حكومية غير مسبوقة بصفتهم النخبة، ومنهم ضباط الجيش وأعضاء الكنيست، لذلك أسقطت الحكومة عنهم الديون، ومنحتهم ثلاثة أرباع المياه في إسرائيل بسعر أقل من التكلفة، وأجّرت لهم معظم أراضي اللاجئين بإيجار رمزي. ومع ذلك لم تبلغ مساهمتهم في الناتج المحلي أكثر من 1.8%. بل وأكثر من ذلك ونتيجة لهذا الفشل، سمحت الحكومة لهم بتحويل بعض تلك الأراضي الزراعية إلى أراضي بناء، لكي يتمكن هؤلاء من بناء عمارات سكنية وبيعها، وخصصت لهم 25% من قيمة الأراضي المباعة التي لا يملكونها، ودخل على خزينة حكومة إسرائيل أكثر من مليار دولار سنوياً من حاصل بيع أراضي اللاجئين.

إذن كيف يمكن أن يقبل أحد خرافة أنه لا يوجد متسع في البلاد، بينما يسرح ويمرح في أراضي اللاجئين الذين يتجاوز عددهم 5 مليون لاجيء حفنة من اليهود لا يتجاوز عددهم 150,000؟

ولقد أثبتت الدراسات الديموغرافية أنه يمكن عودة كل لاجئي لبنان إلى بيوتهم في الجليل، وكل لاجئي غزة إلى بيوتهم في اللواء الجنوبي، دون أن تتأثر الكثافة السكانية لليهود في الوسط بأكثر من 1-5% فقط. ومن مهازل القدر أن المهاجرين الروس الذين إستوعبتهم إسرائيل دون ضجة يساوي عددهم عدد اللاجئين في غزة ولبنان مجتمعين. فكيف يمكن أن يقبل الفلسطينيون خرافة أن العودة غير عملية؟

هذا من ناحية. ومن ناحية أخري، فإن عملية الإحلال والاستبدال هذه ليست إلا عملية تنظيف عرقي، يعاقب عليها القانون الدولي، خصوصاً بعد ميثاق روما عام 1998. وتريد إسرائيل ترك الأراضي الفلسطينية فارغة كرصيد استراتيجي لإحضار 10 ملايين يهودي، كما صرح شامير بذلك مراراً في فترة ما بعد أوسلو.

التوطين إذن هو عملية تنظيف عرقي ومن يدعو إلى التوطين، كما تفعل إسرائيل، ومن يقبل به من العرب لاسباب مختلفة، إنما يطبقون سياسة التنظيف العرقي. فهل يدركون ذلك؟ وهل يدركون أن استيطان المستوطنين حتى في الضفة أو غزة يعتبر من جرائم الحرب حسب ميثاق روما، وأنه لو طبق القانون الدولي، لاعتبر هؤلاء المستوطنون مجرمي حرب؟

وهل يدرك من يهمهم الأمر أن خطة التوطين الأخيرة التي وضعتها المحامية اليهودية الأمريكية من أصل روسي دونا آرزت في كتابها " من لاجئين إلى مواطنين "، وتعتبرها الدوائر الأمريكية خطة عمل مقبولة، ماهي إلا خطة تنظيف عرقي. إذ أثبت البحث أنها تقترح نقل 690 ألف لاجيء من غزة إلى الضفة، و140 ألف من الاردن إلى الضفة، ثم نقل 700 ألف آخرين ليصبح مجموع المرحّلين 1.5 لاجيء، ويوطن الباقون حيث هم.

كيف تنقل هذه الملايين؟ هل هم غنم تساق إلى هلاكها صامتة؟ الا يذكرنا ذلك بقصة القطارات النازية التي تحمل اليهود إلى هلاكهم؟ والآن يريدون أن يملئوا الطائرات باللاجئين ليوزعوهم على بلاد العالم في أكبر عملية إبادة جغرافية يشهدها التاريخ الحديث. إن من يقترح التوطين أو يوافق عليه، إنما يسعى إلي سفك دماء بريئة ويفتح مجالاً للصراع والاضطراب في المنطقة لا يعلم مداه إلا الله.

ويُذكر التعويض أحياناً كإغراء لقبول التوطين، أو رشوة للدول التي تؤويهم والجهات الأخرى التي تسهل ذلك، بل وللأفراد الذين فقدوا الأمل في حل عادل. وهذا كله وهم.

التعويض القانوني حق للاجيء نفسه عن الضرر والخسائر والمعاناة لمدة خمسين سنة، ولا يجوز لأحد أن يتلقاه نيابة عنه، وإلا بقيت مطالبته به قائمة. والتعويض ليس ثمناً للوطن فالوطن لا يباع، بل التعويض مكمل وليس بديلاً للعودة، والأدلة والسوابق القانونية على ذلك ليس لها حصر. أما مطالبات الدول والجهات بالتعويض فلها مجرى قانوني وسياسي آخر، ولكنها قطعاً لن تكون على حساب تعويض اللاجئين أنفسهم.وهناك فرق بين الحق القانوني للأفراد في التعويض الذي لا يسقط، وبين القرارات السياسية التي تحفز أمريكا وأوربا وغيرها لأن تدفع رشوات سياسية للحفاظ على مصالحها في المنطقة. ولا يجوز الخلط بينهما.

وإذا ما سقطت الحجج الاسرائيلية في أن العودة غير عملية وأن التعويض هو الحل، طلعوا علينا بقصة جديدة هي أن الطابع اليهودي لإسرائيل قد يفسد أو " يتلوث " بوجود العنصر العربي، صاحب الأرض.

ونتساءل ما هو هذا الطابع اليهودي؟ هل هو قانوني، أم اجتماعي، أم ديني، أم ديموغرافي؟

إذا كان قانونياً فإن معظم القوانين اليهودية ( ومنها قانون العودة اليهودي )هي قوانين عنصرية مخالفة للقانون الدولي. هذا معروف منذ زمن. ولكن من غير المعروف على نطاق واسع أنه منذ أشهر قليلة أصدرت عدة لجان تابعة للأمم المتحدة تقارير بأن مخالفات إسرائيل للقانون الدولي نابعة من قوانينها المحلية ( العنصرية )، وأنه لكي تكون إسرائيل دولة مقبولة دولياً، فإن قوانينها المحلية يجب أن تتغير. جاء هذا في التقارير الأخيرة للجنة حقوق الإنسان، ولجنة إزالة التفرقة العنصرية ولجنة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، واللجنة المناهضة للتعذيب. وهذا معناه أنه لا الأمم المتحدة ولا الدول التي تقبل بميثاقها وبالقانون الدولي تؤيد هذه القوانين الاسرائيلية العنصرية. فكيف يطلب منا نحن الفلسطينيون أن نقبلها، خصوصا ونحن ضحاياها؟

وإذا كان اجتماعياً، فإننا نتساءل أي مجتمع هذا الذين يخافون عليه؟ هل يصدق أحد أن في إسرائيل مجتمعاً متجانساً يجمع الروس والاثيوبي، أو العلماني والمتعصب، أو الا شكنازى والسفاردى ( المزراحيم)؟ هل تعتبر إسرائيل مجتمعاً متجانساً، إذا كان نصفه يستعمل اللغة العبرية أساساً ويتخاطب فيه الناس باثنين وثلاثين لغة أخرى؟ وكيف يكون يهودياً متجانساً وقد بلغت نسبة الروس غير اليهود 42% مما يعني أن 30% من إسرائيل غير يهودي شاملاً هؤلاء الروس والفلسطينيون ومقيمون أجانب آخرون.

هذه البروفسورة عتصيونى هاليفى من جامعة بار إيلان التي قضت 30 عاماً في دراسة "الهوية" اليهودية تقول: " نحن لسنا شعباً واحداً، فاللغة مختلفة والمظهر مختلف، وأنماط السلوك مختلفة، والهوية مختلفة ". كيف يمكن إذاً أن تكون عودة اللاجئين إلى أرضهم نشازاً في هذا السوق المختلط؟

وإذا كان دينياً، فمن الذين يمنع اليهود من ممارسة طقوسهم الدينية؟ ألم يجدوا في العالم الإسلامي المكان الوحيد في العالم الذي مارسوا فيه حياتهم وعباداتهم بسلام؟

وإذا كان ديموغرافياً، بمعني أن يكون لليهود في إسرائيل دائماً تفوق عددي، فهذا سراب. تقدر نسبة الفلسطينيين في إسرائيل ب26% من اليهود، وعددهم في تزايد. وفي أحسن التوقعات اليهودية، وبفرض استمرار الهجرة اليهودية، فإن عدد اليهود سيكون عشرة ملايين عام 2040 – 2050. وهذا في أحسن الاحوال لأن عدد اليهود في العالم يتناقص بسبب الاندماج والزواج المختلط، وليس لدي اليهود الذين ينعمون بالعيش والنفوذ في أمريكا وأوربا رغبة في الهجرة إلا لفئة صغيرة من العنصريين والمتعصبين دينياً. وفي نفس الوقت فإنه في نفس الفترة أي بعد 40 سنة سيكون عدد الفلسطينيين في إسرائيل عشرة ملايين أيضا، فكيف يمكن لليهود أن يكونوا غالبية السكان في هذه الحال؟ وهل سيعمدون إلى طرد الفلسطينيين في نكبة أخري لتتحقق لهم الغالبية العددية؟ واليوم في فلسطين من النهر إلى البحر، يبلغ عدد الفلسطينيين 47% من مجموع السكان، واليهود 53%، وما هي إلا سنوات أربع ويكون عددهم متساوياً مع اليهود. فكيف وأين يهرب اليهود إلي جيتو جديدة يقيمون حولها " حائطاً حديدياً "، كما قال جابوتنسكي، لكي ينعموا بالنقاء اليهودي؟ هذه أهداف لن تتحقق مع مرور الزمن. وإنما يشتري اليهود بعض الوقت لمطاردة أهداف سرابية، بينما تستمر معاناة الفلسطينيين في الشتات.

هذه إذن هي الحجج الصهيونية لمنع عودة اللاجئين والإدعاء بأنها غير عملية وغير ممكنة. ومن المؤسف أن حفنة من العرب يرددون هذا الكلام من باب "الواقعية" أو "محبة السلام"، ولست أعلم أن أياً منهم قد كلف نفسه عناء القيام ببحث جدي في هذا الموضوع قبل أن يتبناه.

ثم يقولون أيضا أن " الكثير " من اللاجئين لا يرغبون في العودة حتى لو أتيحت لهم. ولست أعلم أن أحداً أحصي هذا " الكثير " بأي درجة من المصداقية. لكن كل استفتاء تم بيّن أن النسبة الساحقة أكدت على الرغبة في العودة إلي نفس البيت الذي طرد أهله منه، بما في ذلك اللاجئون الذين يعيشون في إسرائيل، وفي مناطق السلطة نفسها، رغم كونهم يعيشون في فلسطين، لأن العودة تعنى العودة إلى البيت نفسه. أما عن مشاعر اللاجئين في الشتات فحدث ولا تسل، ويكفي أن تتأمل صور الواقفين على سلك الحدود اللبنانية ينظرون بشوق إلى الوطن.

لكن كل هؤلاء الذين يتحدثون عن عدم الرغبة في العودة إنما ينظرون إلى حق العودة كما لو كان تأشيرة سياحية تنتهي صلاحياتها بعد فترة. وهذه مغالطة صريحة. فحق العودة حق ثابت لا يسقط مع الزمن ولصاحبه الحق في ممارسته في أي وقت شاء. ولذلك فان هذه الاستفتاءات عن الرغبة في العودة عديمة القيمة.

ثم يقولون أيضا أن التسوية قد تتم بالاعتراف الرمزي بحق العودة وعودة بعض العائلات في برنامج لم الشمل وتبادل بعض الأراضي. ونحن لا نحتاج إلي إسرائيل لتعتذر في كلمات عن حصيلة نصف قرن من الجرائم. إن ذكراها منحوتة في صدر كل فلسطيني. إن التوبة الإسرائيلية الحقيقية تتمثل فقط في إعادة الحق إلى أهله وتصحيح الخطأ، وليس في برنامج دعائي رخيص.

إما برنامج لم الشمل فهو وصفة قديمة فاشلة بدأها شاريت عام 1949. والآن بناء على اقتراح آرزت تبدي إسرائيل استعداداً لعودة 70,000 شخص، أي 1.5 % من عدد اللاجئين فقط وعدد هؤلاء عام 1948 كان 8000 فقط. وشروط إسرائيل لعودتهم تعجيزية لدرجة أن هذا المشروع ليست له قيمة عملية.

ويقولون إن قد يتم تبادل بعض الأراضي، فتضم بعض المستوطنات إلي إسرائيل ويتوسع قطاع غزة في المقابل. إن كان هذا في سياق الاعتراف بالدولة الفلسطينية وحدودها، فإن المشكلة ليست في حدود دولة فلسطين فحدودها مقررة تاريخياً، وإنما في حدود إسرائيل نفسها التي لم تعلن لنفسها عن حدود. فالأرض اليهودية تساوي 5.5% من مساحة فلسطين عام 1948، ثم أعلنت إسرائيل دولتها في 14/5/1948 على أرض جديدة احتلتها فأصبحت مساحتها 14%، واحتلت في نهاية حرب 48 ما مساحته 78% من فلسطين واحتلت بعد ذلك 100% عام 1967. والآن تفاوض لتعطي 5% من فلسطين (هي منطقة أ في الضفة) إلي أصحاب الأرض الذين كانوا يملكون 95%، وتطلب من هؤلاء الإقرار بأن اليهود الذين كانوا يملكون 5% لهم الحق الآن في 95% من فلسطين. إن هذا حقاً من سخريات القدر.

إذن فالصراع الآن على مدي اتساع حدود إسرائيل. فإن كان المرجع هو قرار 242 (الذي يزيل آثار عدوان 1967)، فالحدود هي خط هدنة 1949 وهي واضحة ومعروفة. وإن كان هذا غير مقبول لإسرائيل، فإن المرجع الدولي الذي لا يزال قائماً هو قرار التقسيم 181، ومعناه أن على إسرائيل أن تنسحب من 24% من مساحة فلسطين (6,300 كم2) بالاضافة إلى كل الضفة الغربية وغزة.

ولسنا نفهم إذن العبرة من تبادل الأراضي هذا. هل هو اقتراح بتقسيم جديد لفلسطين؟ وعلى أي أساس يتم هذا؟ إن كان على أساس إلغاء القانون الدولي واعتماد القوة العسكرية لإسرائيل والتحالف الأمريكي معها كأساس للمفاوضات فهذا غير دائم وغير قانوني ولا يصنع السلام وليس إلا وصفة لاستمرار الصراع التاريخي.

ولئلا يتفاءل أحد بموضوع التبادل هذا، نذكر هؤلاء بأن إسرائيل تقترح أن كل كيلومتر واحد تعيده إسرائيل من فلسطين المحتلة عام 1948 تأخذ مقابله 3 كم مربعة من الضفة، وتقترح أن تكون الضفة المستعادة في " خالوتسا". لقد عجز شيلوك، شخصية شكسبير الروائية، أن يبتدع وقاحة أكثر من هذه.

وقد لا يدرك البعض أن " خالوتسا " هذه هي تحريف إسرائيلي لكلمة " الخلصة " وهي مكان في جنوب فلسطين، غرب بئر السبع قريبة من منطقة العوجة منـزوعة السلاح التي احتلتها إسرائيل كاملاً، خلافاً لقرارات الامم المتحدة. وهذه المنطقة كثبان رملية جرداء لا طير فيها ولا ماء، وقد أشارت إليها خرائط الجنرال اللنبي قبل نحو قرن، بأنها لا تسلكها الدابة ولا العربة. واليوم توجد في شرقيها مستعمرة يصلها أنبوب مياه واحد. وعلى قرب منها في مكان يدعي رامات حباب يوجد مستودع كبير للنفايات الكيماوية السامة (بروميم)، التي اعترضت على وجودها لجان بيئية محلية ودولية لأنه سمم المياه وقتل النباتات، وسببت خطوط الضغط العالي إشاعات خطرة، ولا يزال الفلسطينيون في النقب الذين يعيشون بالقرب منها، يعانون من أمراض سرطانية. هل هذا هو المستقبل الذي تعرضه إسرائيل للاجئين في مشروع تسوية كامب دافيد؟

لكن قطاع غزة المزدحم بمليون وربع إنسان بكثافة 4200 شخص/كم2 يشكل بجميع المقاييس مأساة إنسانية. يكفي أن نقارن هذه الكثافة بعدد السكان اليهود حول هذا القطاع التي تبلغ 6أشخاص/كم2 فقط، أي حوالي واحد في الألف من كثافة قطاع غزة. اللاجئون هناك يرون أراضيهم شبه الفارغة رأي العين، مثلهم في ذلك مثل اللاجئين على حدود لبنان. فكيف يكون شعورهم؟ ولا يوجد في جنوب فلسطين بمساحة 14,000 كم2، من الفالوجة إلى العقبة، سوى 78,000 يهودي قروي فقط (بالإضافة إلى سكان المدن مثل بئر السبع واسدود وغيرها). ولو تبادل هؤلاء الأماكن مع اللاجئين، لامكن عودة كل اللاجئين في قطاع غزة إلي بيوتهم الأصلية دون مشقة، وأمكن استيعاب هؤلاء اليهود القرويين في مخيم واحد أصغر من مخيم جباليا.

من هذا كله نجد أنه من المستحيل أن يقبل اللاجئون بأي حل دون حق العودة الكامل. وليطمئن " الواقعيون " دعاة السلام أن كل ادعاءاتهم بعدم إمكانية العودة هي مجرد ترديد للباطل الذي تسّوقه إسرائيل وتدفع أمريكا ثمنه دراسات وبحوثاً.

إن الواقعية الحقيقية هي أنه يستحيل هضم حقوق 5 ملايين لاجيء، أراضيهم مباحة للغرباء، ورغم 50 عاماً من الاستيطان لا تزال معظم أراضي اللاجئين قليلة الكثافة. الواقعية الحقيقية هي أن هذه المنطقة لن تنعم بالسلام إذا بقيت أكبر وأهم وأقدم جماعة للاجئين في العالم محرومة من العودة إلى ديارها. إذ لو رفض 1% فقط منهم هذه الحلول المفروضة، لتكونت منهم قوة قوامها 50,000 موزعة على المناطق الخمس لوكالة الغوث (الاونروا) أي بمعدل 10,000 في كل منطقة، وهذه كافية لأن تجعل المحتل لا يغمض له جفن، كما حدث في جنوب لبنان.