فى زحمة الأخبار عن قمة كامب دافيدو الضغوط التى يتعرض لها كل طرف، نقلت رويترز خبراً نشرته الحياة فى 2000/7/8، ذكرت فيه أن خالد سلام (محمد رشيد) المستشار "الاقتصادى " للرئيس ياسر عرفات صرح بأن المفاوضين الفلسطينيين سيطلبون من باراك اثناء القمة التى دعا إليها كلينتون هذا الاسبوع 40 بليون دولار لدفع تعويضات اللاجئين وتمويل إعادة توطينهم.

وكان من الممكن اعتبار هذا الخبر من الاجتهادات الصحفية، لولا أنه تكرر كثيراً وبنفس المعنى. وعلى سبيل المثال وزعت وكالة MENL (ومقرها قبرص)قبل شهرين فى 2000/5/12 أن محمد رشيد طالب بخمسين بليون دولار (بزيادة عشرة) خلال الخمس سنوات القادمة لتوطين 860,000 لاجئ قادمين من الاردن إلى اراضى الدولة المتوقعة، أى فى اجزاء من الضفة وغزة.

وذكرت الأنباء أن المفاوضين سيصحبون معهم 50 خبيراً وسياسياً من مختلف الفئات لمواجهة الاسرائيليين فى قمة كامب دافيد الثانية، ولمحاولة انتزاع الحقوق الفلسطينية الثابتة منهم، طبقاً لتصريحات المسئولين. وقرارات المجلس المركزى الاخيرة لالبس فيها ولاغموض، وهى فيما يخص اللاجئين، تطبيق حق عودة اللاجئين إلى ديارهم عام 1948، مع تعويضهم عن خسارتهم المعنوية والمادية خلال خمسين عاماً.

لكن الخبر المنسوب إلى محمد رشيد يناقض ذلك تماماً. فهل فهمنا المقصد خطأ؟و أن كان الخبر صحيحاً فلمن ‘يدفع التعويض؟ وما هى قيمة التعويض؟ وما هو المعّوض عنه؟ وهل التعويض بديل عن العودة أم مكمل لها؟ ومن المؤهل للمطالبة بالتعويض؟ وأين تذهب قيمة التعويض؟

أتمنى مخلصاً أن يكون المفاوضون والمطالبون بهذا التعويض على علم كامل بالأجوبة على هذه الاسئلة. وإلا فإن العبارة المشهورة “ إن كنت لا تدرى.. “ ينطبق على الحال بكل أسف.

التعويض واجب الاداء على كل متسبب بالضرر، والأصل فيه " إعادة الشىء إلى أصله "، أو التعويض عنه بما يشابهه. والصيغة الموجودة فى القرار 194 ليست جديدة، وإنما هى تطبيق للقانون الدولى.والتعويض إجراء تعاقدى ثنائى بين المتضرر والمتسبب فى الضرر. وفى هذه الحالة، فأن المتضرر هو اللاجئ كفرد، والمتسبب فى الضرر هو " الحكومات والسلطات المسئولة " كما جاء فى القرار 194، وهذه هى حكومة اسرائيل والصندوق القومى اليهودى والوكالة اليهودية وغيرهم.

إذن فالتعويض يعود إلى اللاجئ نفسه كحق فردى، وليس لأى سلطة أو حكومة حق استلامه بالنيابة عنه. ولو استلمت جهة ما التعويض عن اللاجئ بدون توقيعه الفردى على ذلك، لما أسقط هذا حقه فى المطالبة به، إذ أن أية اتفاقية سياسية أو معاهدة لا تسقط حقوق الأفراد. والأمثلة على ذلك عديدة. وعندما نجحت المنظمة العالمية لاستعادة أملاك اليهود فى أوربا (W J R O)، بمساعدة الادارة الامريكية وعلى رأسها ستوارت أيزنستات فى إرغام الدول الأوربية على إعادة الأملاك اليهودية لهم، رفعت جمعية اليهود فى بولندا قضية عليها، وطعنت فى صلاحيتها باستلام أملاك اليهود أو التعويضات المالية بالنيابة عنها، وصدر الحكم لصالح الجمعية البولندية اليهودية.

كما تكونت جمعية فى اسرائيل لليهود العراقيين برئاسة البروفسور يهودا شنهاف، للمطالبة بأملاكهم فى العراق، وطعنت فى صلاحية دولة إسرائيل لمقايضة أملاكهم بأملاك الفلسطينيين التى استولت عليها إسرائيل، قائلة: إنكم لا تملكون أملاكنا فى العراق، ولا تملكون أملاك الفلسطينيين فى اسرائيل، فكيف تقايضون هذه بتلك، وتبقى لكم أملاك الفلسطينيين خالصة؟

هذا فيما يتعلق بالأملاك الخاصة، أما الاملاك العامة فموضوع آخر. إن لدولة فلسطين، إذا قامت، الحق فى التصرف بالأملاك العامة داخل مناطق سيادتها لغرض الصالح العام. ولكنها لا تستطيع للأسف السيطرة على الاملاك العامة للفلسطينيين فى اسرائيل، مثل الطرق والسكك الحديدية والمطاراتو الموانئ لأنها خارج سيادتها. وهذا لايتم إلا لو تم اعتراف اسرائيل الكامل بالحقوق الكاملة للاجئين وتفويض اللاجئين لجهة ما لتمثيلهم فى حصتهم من الأملاك العامة. لكن 71 % منهم يعيشون خارج مناطق السلطة، فكيف إذن يمكن الحصول على تفويضهم بذلك؟ هذا لن يتم إلا بالتمسك بالحقوق الثابتة للفلسطينيين وعلى رأسها العودة ويتبعها التعويض، وذلك فى برنامج وطنى يقبله الجميع ويشمل تعبئة الشعب الفلسطينى فى الشتات. وهذا لم يتم حتى الآن.

على أن الذين يأملون فى التعويض كوسيلة وحيدة لإنهاء النـزاع مع اسرائيل واهمون. ذلك لان خطة اسرائيل للتعويض تعتمد على شروط غير مقبولة وغير عملية وتعجيزية. ترى اسرائيل ان التعويض هو ثمن التسوية، بموجبها يتم الاتفاق على القدس والمستوطنات والحدود والدولة واللاجئين بالطبع. وترى أن دفع التعويضات يجب أن يكون مرحلياً، وفى كل مرحلة يهدم مخيم ويشطب إسم لاجئ ويقفل مكتب فى وكالة الغوث. وترى أنها لا تستطيع دفع التعويض لانها مشغولة بايواء الروس والاحباش وتطلب إنشاء صندوق دولى تساهم فيه الدول الغربية والعربية الغنية، وتصر اسرائيل على أن يكون لها الحق فى أن تقرر من هو اللاجئ المستحق بموجب وثائق تقدم لها وذلك خلال مدة محدودة تسقط بعدها المطالبات، كما تقدر اسرائيل قيمة التعويض بمبلغ يساوى 1 % من قيمة الممتلكات الفعلية ناقصاً الرسوم والمصاريف الى ستتقاضاها. وأخيراً تلقى اسرائيل على السلطة مسئولية إلزام اللاجئين بقبول هذه الشروط وإلا يعتبر من يخالف ذلك معادياً للسلام.و الخلاصة أن اسرائيل، تريد الاستحواذ على أملاك الفلسطينيين التى تساوى 92 % من مساحتها مجاناً أو مقابل مبالغ تافهة يدفعها الآخرون، ويتم تسليمها لهم بموجب صك شرعى موقع عليه من أصحاب الحق أنفسهم. غنى عن القول أن هذا الطرح الاسرائيلى مخالف للقانون الدولى ويستحيل قبوله، ولو تم على أى صورة فأنه لا يسقط أياً من الحقوق الفردية للفلسطينيين.

أما القيمة الفعلية للأملاك الفلسطينية حسب دراسات سامى هداوى وعاطف قبرصى، فتصل إلى مبلغ 562 بليون دولار فى الوقت الحالى، وهذا لا يشمل كثيراً من البنود التى لم يتم تقديرها، مثل المعاناة النفسية وفقدان الهوية والشتات. كما أنه لا يشمل جرائم الحرب، التى استثناها قرار 194 عمداً، لأنها منصوص عليها فى المنظومة القانونية لجرائم الحرب، وذكرت المذكرة التفسيرية للقرار 194 أن جرائم الحرب يجب أن تعالج فى إطار معاهدة سلام حسب القانون الدولى. وقد تعززت أهمية هذا القانون وشموله بانشاء محكمة جرائم الحرب التى نص عليها ميثاق روما عام 1998. وهذه الجرائم تقسم إلى ثلاث فئات: جرائم الحرب ومنها القتل وسوء المعاملة وقتل أسرى الحرب وتدمير الممتلكات العامة والخاصة دون سبب عسكرى، وجرائم ضد الانسانية مثل قتل المدنيين وحبسهمو ترحيلهم وطردهم وتشغيلهم فى أعمال السخرة وممارسة التمييز العنصرى أو العرقى أو الدينى ضدهم، وجرائم ضد السلام مثل التخطيط للعدوان والمبادرة له والتحريض عليه.

وتأمل بعض الدول فى الاستحواذ على جزء من تعويضات اللاجئين مقابل ايوائهم وهذا غير قانونى. فاللاجئون فى بلد ما إما بقوا فيها بصفة لاجئين أو أصبحوا مواطنين. فى الحالة الأولى يجيز القانون الدولى للدولة المستقبلة أن تطالب الدولة الطاردة ( اسرائيل ) بتعويض مقابل الاعباء التى وقعت عليها من جراء اضطرارها لاسباب إنسانية قبول هؤلاء اللاجئين الذين طردتهم اسرائيل خارقة بذلك سيادة الدولة المستقبلة.

وإذا أصبح اللاجئون مواطنون فإن عقد المواطنة بين الفرد والدولة يفرض على الدولة أن تقدم لمواطنيها الإعاشة والتعليم والصحة مقابل التزام هذا الفرد بقوانين الدولة.

والسؤال الآن هو من أين جاء الرقم 50 بليوناً الذى أصبح 40 بليوناً من الدولارات الذى يطالب به المفاوض الفلسطينى؟ ومن أين جاء الرقم 860,000 من اللاجئين الذين سيعودون إلى الضفة والمطلوب تأهيلهم هناك؟

لا يوجد مثل هذا الرقم إلا فى خطة المحامية اليهودية الامريكية الروسية الأصل دونا آرزت التى تبنّى مجلس العلاقات الخارجية الامريكى كتابها " من لاجئين إلى مواطنين ". فهى تقترح ترحيل هذا العدد من سكان قطاع غزة والاردن إلى الضفة لتوطينهم هناك. وتقترح كذلك ترحيل ما مجموعه 1.5 مليون لاجئ من أماكن اللجوء الحالية إلى أى مكان فى العالم عدا وطنهم. وتقترح توطين الباقى حيث هم. وتقترح عودة رمزية لبعض اللاجئين فى لبنان إلى بيوتهم فى اسرائيل بما لا يزيد عن 75,000 أى 1.5 % من اللاجئين، (ولو عادوا عام 1948 لكان عددهم 8000 آنذاك )، على أن تتوفر فيهم شروط عدة منها كبر السن ووجود أقارب احياء هناك وأوراق ثبوتية للأملاك وغير ذلك مما يجعل هذا الرقم عديم القيمة من ناحية عملية. هذا علماً بأنه يوجد فى اسرائيل اليوم 250,000 لاجئ داخلى يحملون الجنسية الاسرائيلية ولم يعودوا إلى ديارهم بعد.

فهل المقصود بمطالبة المفاوضين الفلسطينيين بهذه المبالغ توطين اللاجئين حسب خطة آرزت؟ وهل يتوافق هذا مع الإعلان الرسمى عن التمسك بقرار 194 القاضى بالعودةو التعويض. لا نعتقد ذلك ولو حصل وهذا مستبعد كيف يكون رد فعل الشعب الفلسطينى على ذلك؟ لقد رأينا ملامح الموقف الشعبى واضحة خلال سنوات ما بعد أوسلو وعلى الأخص خلال الاثنى عشر شهراً الماضية. لقد تكونت لجان حق العودة فى كل أماكن الشتات، وقوبل " إعلان حق العودة الفلسطينى " الذى وقعت عليه شخصيات فلسطينية بالتأييد المطلق فى كل مكان، وتوجد اليوم أكثر من 200 جمعية أو جماعة تطالب بحق العودة الكامل. كما أن المجلس المركزى فى اجتماعه الأخير قد أكد التمسك بهذه الحقوق بشكل قاطع.

وبعد تاريخ طويل من المعاناة لن يقع الشعب الفلسطينى فى فخ الرشوة الدولية الموعودة لفظياً والتى بدأت ب 100 مليار دولار ثم تضاءلت إلى 50 ثم 40 ( ربما بسبب تحويل المبالغ إلى جهات أخرى )، لكى يتنازل عن حقوقه التاريخية تحت أى مسمى. لكنه يقول لقادته: إذا لم تؤدى جهودكم إلى تحقيق المطالب الوطنية فلا تخفضوها إلى مستوى تلك الجهود، بل أتركوا ذلك إلى جيل قادم يستطيع ذلك.

وباختصار فان الفلسطينيين يطالبون بالعودة إلى ديارهم التى طردوا منها عام 1948. واللاجئ يبقى لاجئاً بالمعنى الوجدانى والقانونى حتى لو غيروا عنوان المخيم أو نقلوه إلى دار فخمة، ولا تسقط عنه هذه الصفة إلا إذا عاد بكامل حقوقه إلى بيته الأصلى. ولذلك فإن الترحيل أو التوطين أمران مستحيلان، ومجرد محاولة ذلك إنما تؤدى إلى سفك دماء بريئة. ويطالب الفلسطينيون بحقهم فى التعويض من أجل المعاناة النفسية والضرر المادى الذى وقع عليهم خلال 50 سنة والذى أكده قرار الأمم المتحدة الأخير فى نوفمبر 1999، والتعويض بالنسبة لهم لا يعنى قطعاً بيع الوطن واستبداله بمكان آخر. وحق التعويض فردى فى الأساس، لا تملك سلطة أن تستحوذ عليه ولا أن يطالب به باسم اللاجئين إلا أهل فلسطين أنفسهم الذين يملكون أرضها وهى موطنهم التاريخى.