تدور حرب خفية ضد الحقوق الفلسطينية، لا تحظى بالأضواء التي تسلط على فرسان مفاوضات أوسلو، ولا تشترك فيها السلطة، ولا المنظمة، وأغلب الظن أنه لا هذه ولا تلك على علم بوجودها، وأن علمت، فلا نرى أنها قامت بجهد فعال.

تشن هذه الحرب تحت ستار ما أسماه إدوارد سعيد (العلم المشبوه). وجنود هذه الحرب علماء وأشباه علماء، معظمهم يهود أوروبيين، وربما انضمت إليهم شخصيات عربية عن حسن نية، وأوضح مثال على هذا النوع هو كتاب (منذ الأزل) صدر منذ سنوات قليلة لمؤلفته جوان بيترز وحشدته بالأرقام والوثائق والتحاليل لكي تثبت حقيقة كانت غائبة عن العالم وأدركتها هي منفردة، وذلك أنه لا يوجد فلسطينيون في فلسطين، وأن هؤلاء الذي يدعون ذلك إنما هم مهاجرون من بلاد عربية مجاورة، جاءوا طمعاً في الثروات التي يوزعها الصهاينة في فلسطين. وبعد أن كلل المهللون صاحبته بالغار لهذا الاكتشاف الرائع، سقط الكتاب سقطة شنيعة على أيدي الباحثين الجادين، لكن بعد أن استغلت الدعاية هذا الكتاب خير استغلال.

وما أن وقع اتفاق أوسلو حتى تكاثرت بغزارة تلك المؤسسات والمعاهد والجمعيات التي تسعى إلى البحث العلمي (المجرد) نحو التوفيق بين الأطراف المتنازعة في قضية فلسطين وإيجاد الأرضيات المشتركة التي تضمن من الحقوق لكل طرف ما يتناسب مع كل طرف وقدراته، مع التطلع إلى المستقبل والتأكيد على نسيان الماضي.

من بين هذه المعاهد، واحد يتمتع بالانتماء إلى جامعة أميركية عريقة، وقائمة المشاركين فيه تشمل شخصيات علمية أميركية، وشخصيات عربية مرموقة معظمها مالي. ورئيسه التنفيذي يهودي أميركي، يقسم بأن هدفه في الحياة الذي يسعى جاهداً لتحقيقه هو إقامة دولة فلسطينية مستقلة. وأطلعت على بعض منشورات هذا المعهد، وسنحت لي فرصة حضور أحد مؤتمراته بصفة مستمع، فخيل إليّ أني أشهد مسرحية من نوع سريالي. كان هناك ثلاثة أطراف: أميركي وإسرائيلي وعربي. وباستثناء الطرف العربي، فإن كافة أعضاء الطرفين الآخرين يهود أميركيون وإسرائيليون، باستثناء شخص أميركي قح وحيد. وتعجبت كيف يتحدث الطرف الإسرائيلي بلهجة نيويورك، بينما يتحدث الطرف الأمريكي بلكنة بولندية. لكن لا بأس بهذا، المهم الموضوع. دار البحث حول إيجاد وسيلة لجعل حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي مقبولة، أي وسطاً بين الفناء والاعتقال، وتبارى المتحدثون في اقتراح بطاقات حمر وخضر للسكان حسب درجة خطورتهم على أمن إسرائيل، ومعابر لطرقات البضائع والناس لتوفر مستوى التفتيش المطلوب لأمن إسرائيل. ولم يقل أحد من (العلماء) أن الاحتلال شر إنساني ومخالف للقانون الدولي، ويجب إنهاؤه وأنه لا يجوز استعباد شعب وسلب حقوقه. كانوا يفصّلون بدلة الاحتلال على الطراز الإسرائيلي، وهذا غرضهم الأوحد. واستفسرت أكثر، فعلمت أن هذا المعهد أقيم خصيصاً بعد أوسلو، وأنه ليس جزءاً ثابتاً من الجامعة العتيدة، وأن (العلماء) فيه ليسوا كلهم أعضاء في تلك الجامعة، لكن انتدبوا لهذا العمل من جهات عدة، وجمعت له أموال التبرعات من مؤسسات أميركية وأفراد عرب (ومن هنا التركيز على الشخصيات العربية المالية) بغرض تحقيق مسيرة السلام.

وفي مكان آخر تنشر بحوث مستفيضة عن نظرية "المياه الوهمية"، وهي نظرية تقول أن المياه ليست مهمة إلى الحد الذي يثير حرباً، وأن ملكية المياه غير مهمة، وأن العبرة باستعمالها. ووضع الباحثون تشريعات وقواعد وبرامج كمبيوتر للاستغلال المشترك للمياه العربية، وبإعطاء قيمة وهمية للمياه وتبادلها بين الأطراف التي تحتاجها، فتشتري الدولة المحتاجة للمياه والغنية بالصادرات (مثل إسرائيل) من الدولة التي لديها فائض من المياه وتحتاج إلى الإستيراد (مثل لبنان)، فيتبادل الطرفان المصالح، وتحصل إسرائيل على المياه مقابل تصدير منتجاتها، فتعم السعادة على الجميع وينعم الكل بجو مفعم بالسلام.

في 1997/6/17 عقد في مسقط مؤتمر نظمه (مركز الشرق الأوسط لتحلية المياه). ومسقط هي الدولة العربية الوحيدة العضو فيه، ويأمل القائمون عليه أن تدخل في عضويته الدول العربية واحدة بعد أخرى. وكما هي العادة، فإن معظم الباحثين فيه يهود، مهما كانت جنسيتهم.

يقول قائل: وما أهمية أبحاث نظرية مثل هذه؟ الواقع أن هذه المعاهد جزء من هيكل مؤسساتي يسعى إلى إشاعة مناخ سياسي لأبحاث تطرح وتناقش وتكتسب نوعاً من الصدقية، وقدراً من الإجماع، خصوصاً إذا اشتركت في مناقشتها شخصيات عربية. وتتحول هذه الأبحاث إلى أوراق عمل ثم إلى خطة عمل يتبناها الساسة، وتحصل على إجماع أوربي وأميركي، ثم تقدم للطرف الفلسطيني، أو العربي، كاقتراح جاهز للتنفيذ. وعندئذ تطرح لأجهزة الإعلام كخلاصة الرأي الصائب، وتظهر في مقالات أو برامج تلفزيونية كأنها غاية الحكمة. وعندما يواجه الطرف الفلسطيني بالاقتراح المعروض للتنفيذ فإنه يُسقط في يده، فلا هو جزء من عملية المخاض التي أدت إلى هذا الاقتراح، وليست لديه خطة بديلة، وليست لديه قدرة على تحويل الرأي العام الذي شكلته الصحافة، بل أنه يجد صعوبة في إقناع بعض الأطراف العربية بضرر الاقتراحات المعروضة على حقوقه.

هذا هو التدجين بعينه، لكن إذا استعمل التدجين وسيلة للتوطين، الذي تكمن فيه نهاية الشعب الفلسطيني، وتشريده إلى الأبد تحت إطار من الشرعية، فإن هذه جريمة كبرى وشر مستطير يجب مقاومته بكل السبل.

التوطين:

نختزل مشاريع التوطين المتعددة، ومنها اقتراحات هيللر وادلمان وبيريتز وشلومو غازيت، لنركز على المشروع الأخير الذي تناقلته الصحف الأميركية، لنرى كيف يسخر (العلم المشبوه) للقضاء على الشعوب. ونذكر بمشروع اليهودية الأمريكية من أصل روسي دونا آرزت ( رجاء الرجوع إلى تفاصيل خطتها في المقال السابق: حق العودة مقدس وقانوني وممكن، المنشور في جريدة الدستور عام 1997 ).